Translate

الفصل الثالث - خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ

الفصل الثالث

خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ

"الإنسان هو بالمجمل مجموع لا نهائي من العلاقات، سواء فسيولوجية أو فيزيائية أو نفسية أو معرفية؛ كل علاقة فردية من هذه العلاقات تعد علقة؛ والتفاعل بين هذه العلاقات بعضها بعضًا هو في النهاية ما يميز الإنسان عن غيره، بسبب هذا العدد غير النهائي من العلاقات، وتشابكها وتفاعلها، يصعب - بل يستحيل - الحكم على إنسان من خلال السلوك الإنساني غير المقاس"

 

لا بد أنك يومًا قرأتَ مقالًا، أو سمعت حديثًا، أو رأيت فيلمًا تسجيليًّا عن مراحل تكون الجنين، ووصف القرآن الكريم لتلك المراحل، وتسميتها تسميات محددة. لقد حاول الكثيرون ربط الاكتشافات العلمية بالوصف القرآني، مستشهدين بتفسير معاني الكلمات العربية، واعتمدوا بشكل كبير على الترادف. لا شك أنها محاولات محمودة، وجهد مشكور، ولكنها تبقى جهدًا بشريًّا معتمدًا اعتمادًا كليًّا على فهم الإنسان وحدود معارفه.

تلقى فكرة الإعجاز العلمي رواجًا كبيرًا لدى الناس؛ لأنها تروي ظمأهم لليقين، عملًا بنظرية: بلى أؤمن ولكن ليطمئن قلبي؛ ورُغم ذلك فإن نسبة ليست بالقليلة، تعارض ذلك معارضة شديدة، بحجة أن القرآن ثابت، والعلم ونظرياته متغير.

تكمن المشكلة الحقيقية في فهم الناس، وطريقة تعاطيهم مع كتاب الله، ومحاولة تأويل هذا الكتاب العظيم. عندما تجعل كتاب الله بكلماته، وألفاظه المُحكمة، في نفس مستوى تأويل البشر، تكون قد ارتكبت خطأ جسيمًا، وهنا تكمن الكارثة. كلمات الله منذ أن أنزلت لم تتغير ولم تتبدل، وها هي أمام كل متدبر ومفكر يستطيع أن يصول ويجول حولها، تبقى كلمات الله تحمل الحقيقة، ويبقى الفهم البشري يحمل قدرة واستيعاب صاحبه، ويعكس معارف العصر الذي صيغ فيه هذا التأويل.

إذا أخبرَنا القرآن الكريم أنَّ من مراحل خلق الجنين هي العلقة؛ فإن مسمى العلقة هو أحد مراحل تكوُّن الجنين الحقيقية؛ وأي محاولة لتفسير العلقة بأنها كتلة دم متخثر، أو دودة عالقة، هي انعكاس لمعرفة الناس وفهمهم؛ ويبقى جذر كلمة علقة، وهو العين واللام والقاف، هو الحقيقة التى يجب أن نبحث خلفها ونتعلق بها. سميت الدودة بالعلقة ليس لشيء إلا أنها تعلق بالعائل، أي بالكائن الذي تتغذى عليه، أي أن هناك علاقة وارتباط نشأ بينها وبين العائل، وهذه العلاقة واضحةٌ للمشاهد؛ ومن هنا جاءت تسمية علقة.

 أما تسمية العلقة بكتلة الدم المتخثر، فأعتقد أنها استمدت صفتها من التفسيرات القديمة وبالتحديد المفاهيم الإغريقية، إذ كان يعتقد أرسطو أن الجنين عبارة عن شكل غير معروف داخل الرحم، ربما من دم الحيض، يتم تحفيزه أو إعطائه الروح من خلايا الرجل ويتحول لتجلط دموي. أعتقد أن المفسر الذي وصف العلقة بكتلة الدم المتخثر، قد استقى هذه المعلومة من تفسير أرسطو للعلقة، فدخل هذا الوصف للمعاجم والتفاسير، وهو وصفٌ علميٌّ خاطئ بالمرة، كما سوف نرى بعد قليل.

للإفلات من هذا الفخ، أقصد فخ التسميات البشرية ومدلولاتها، كان لزامًا علينا اعتماد مدلول جذور الكلمات بدلًا عن مدلول الكلمة ذاتها؛ فكلما اقتربنا من الصورة الأولية والصورة البسيطة، كان الطريق أيسرَ للفهم وأشمل.

لو حاولنا الاقتراب من الكلمات التي تصف تكوين الجنين، سنجد أن كلمة علقة مشتقة من مادة "علق" وهي العين واللام والقاف؛ هذه المادة في قاموس اللغة تعني: تعلّق شيء بشيء (أي وجود علاقة بين شيء وشيء أعلى)؛ أما كلمة مضغة وجذرها "مضغ" فهي تعني: ضغط الشيء مع الحشر.

المفسرون القدامى والمحدثون منهم، أرجعوا تسمية علقة إلى الشبه القائم بينها وبين الدودة التي تعلق بالكائن. هنا مكمن الخطأ وهو محاولة تكييف اللفظ القرآني مع تسمية بشرية مبنية على معارف بشرية؛ أما الوصف الآخر للعلقة وهو كتلة الدم المتخثر، هو وصف وتصور أرسطو عن مراحل تكوين الجنين وليس له علاقة باللغة أو بمدلول الكلمة في كتاب الله. ما علاقة علق، التي تعنى علاقة بين شيء وشيء، وبين وصف كتلة الدم المتخثر أو المتجلط؟

 الفرق بين التسمية في كتاب ومدلول الكلمة عند البشر، يشبه  إلى حد كبير تسمية السيارة، التي وردت في سورة يوسف، ومعناها القوم الذين يسيرون، أو المارة؛ فإذا جاء من يعتقد أن المقصود بالسيارة هنا هي السيارة الحديثة التي تسير بالوقود، فهذا لا شك خلط يسبب تشويشًا وارتباكًا في فهم المقصود من التعبير القرآني.

﴿وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَىٰ دَلْوَهُ ۖ قَالَ يَا بُشْرَىٰ هَٰذَا غُلَامٌ ۚ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ (سورة يوسف: الآية19).

 فمثلًا إذا قلنا معنى السيارة في المعجم: هي ذلك الشيء الذي يسير على أربعة إطارات وله محرك، وحاولنا تفسير القرآن تبعًا لهذا التفسير، فهذا تكلفٌ غير مقبول، ولكن يجب أن نسلك طريقًا صحيحًا في محاولة تفسير الكلمة، وهو محاولة فهم جذر الكلمة، وماذا تعني؛ فكلمة سار أصلها سير، وتعني المضي والجريان، وهكذا يجب أن نمضي.

لذلك فأنا أرفض تفسير كلمة علقة بكتلة الدم المتخثر، أو حتى الدودة العالقة؛ والأصح عندي هو جذر الكلمة، وهو تعلق شيء بشيء. كما ذكرنا فإن وصف العلقة على أنها كتلة دم متخثر هو تسمية بشرية خالصة، قامت على معارف إنسانية محدودة بمقاييس ذلك الزمان؛ فقد أثبتت المعارف الحديثة أن الكتلة العالقة في الرحم في بداية التكوين (الجنين غير الحي أو الجنين الجرثومي) ليست دماء متخثرة، وإنما بحسب المجلات العلمية، أن الدماء المحبوسة في الأوعية الدموية هي دماء في حالة سائلة، وليست متخثرة.

أجاب بعض علماء العصر الحديث عن هذا الأمر بقولهم أن شكل الكيس الجنيني يشبه إلى حدٍّ كبير الدم المتخثر! ومرة أخرى التشبيه سطحي جدًّا وظاهري على غير الحقيقة، وتحميل المعنى أكثر مما ينبغي. كلمة علقة كما قلنا جاءت من مادة علق، وهي تعلق شيء بشيء آخر، وإذا استعرضنا الآيات القرآنية لنتعرف على معنى كلمة علقة، وكلمة مضغة، فإننا سنجد التالي:

ذكرت كلمة علقة بمعناها كمرحلة من مراحل تكوين الجنين خمس مرات في كتاب الله، منها مرتان في سورة المؤمنون.

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾  (سورة الحج: الآية 5)

﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ (سورة المؤمنون: الآية 14)

﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (سورة غافر: الآية 67)

﴿ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ﴾ (سورة القيامة: الآية 38)

هذا بالإضافة إلى كلمة علق التي ذكرت مرة واحدة في كتاب الله، وسميت سورة باسمها، ولنا معها وقفة في نهاية الفصل بإذن الله.

﴿خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾ (سورة العلق: الآية 2)

يقول الله سبحانه وتعالى عن مراحل تكوين الجنين، أن الخلق بدأ من تراب، وهي المرحلة الأولى (التراب ليس هو تراب الأرض كما هو مشاع ومعروف، تفسير معنى تراب وعلاقة هذا المسمى بتكوين الجنين مذكور بالكامل في الجزء الثالث من كتاب تلك الأسباب) بعد التراب لدينا ست مراحل من مراحل تكوين الجنين، بدايةً من النطفة، ثم العلقة، ثم المضغة، ثم خلق المضغة عظاماً، ثم كسو العظام لحماً، ثم عملية الانتقال الكامل من مرحلة ما قبل الحياة إلى مرحلة الحياة، والمسماة بالخلق الآخر.

كلمة نطفة أصلها نطف، ولها أصل هو: بلل أو نداوة. ويمكننا محاولة فهم نطفة من خلال الآية التالية وسوف نمر عليها سريعًا؛ لأن هذا الفصل معنيّ بدراسة العلقة والمضغة بالأساس.

﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ (سورة الإنسان: الآية 2).

 يمكن القول إن النطفة هي أول مرحلة من مراحل تكوين الجنين بعد الاندماج، عندما يستقر الحيوان المنوي داخل البويضة. إنها اللحظات الأولى لالتقاء الخلية الذكرية بالخلية الأنثوية.

العلقة

بمجرد اندماج الحيوان المنوي مع البويضة تبدأ عملية الإخصاب، وتبدأ عملية انقسام الجنين، بانشطار أول خليتين (خلية من الأم، وخلية من الأب) بطريقة تُسمى الانقسام المتساوي كي تعطي أربعَ خلايا. ثم تنقسم الأربع خلايا لتنتج ثماني خلايا، وتستغرق هذه العملية من 12 إلى 24 ساعة لكل انقسام؛ يحدث هذا الانقسام والخلايا المنقسمة حبيسة داخل أغشية قوية للبروتين السكري، الذي يسمى المنطقة الشفافة للبويضة، وتسمى هذه الخلايا بالبرعم.

هذه الخلايا الثمانية، خلايا غير متمايزة أي متشابة لا يمكن تميز بعضها من بعض. نتيجة انقسام الخلايا تتكون فجوات بين الخلايا بعضها بعضًا، فتقوم تلك الخلايا بمحاولة وصل تلك الفجوات عن طريق ضغط نفسها حتى تتمكن من النمو بطريقة متماسكة. قبل هذه اللحظة لم تكن هناك أي علاقة بين مجموعة الخلايا التي تكونت نتيجة الإخصاب وجسم الأم، بعد 24 ساعة تقريبًا من عملية الإخصاب تبدأ أول إشارة من تلك الخلايا إلى جسم الأم، ومن هنا تتكون أول علاقة بين مجموعة الخلايا وجسم الأم. هذه العلاقة الأولية هي ما تسبب الاستجابة للمؤثرات الفسيولوجية الصادرة عن جسم الأم لمجموعة الخلايا التي ستكون الجنين المستقبلي. في غضون 24 ساعة فقط، يُعلن القادم الجديد عن نفسه فيتلقى رسالة الترحيب الأولى في صورة استجابة سريعة، لتبدأ معها مرحلة جديدة من النمو والتطور. عند هذه النقطة نستطيع أن نقول الآن - والآن فقط - علقت مجموعة الخلايا بعلاقة ما مع الجسم العائل لها، ويصح تسميتها علقة، فقبل ذلك لم تكن العلاقة تكونت بعدُ بين البذرة الجنينية وبين الأم؛ أما الآن فقد تمت الاستجابة وعلقت كتلة الخلايا، وعددها لم يتجاوز الثماني خلايا، وهي لم تستقر في الرحم بعد. العلقة هي الحالة التي تصف وضع الخلايا في غضون 24 ساعة من التخصيب وليس بعد ذلك، تبعًا لمدلول الكلمة وجذرها وتوافقها مع المعلومات العلمية المتاحة، وكذلك تبعًا لترتيب المراحل التالية كما سنرى.

المضغة

بعد مرحلة العلقة تأتي المرحلة الثانية وهي مرحلة المضغة كما ذكرها كتاب الله؛ ولكي نفهم أو نقترب قليلًا من فهم المضغة يجب أن نتتبع جذر الكلمة في اللغة العربية، فجذر كلمة مضغة هو مضغ، الميم والضاد والغين، وله أصل هو الضغط مع الحشر. عملية المضغ هي عملية ضغط مع حشر والشيء الممضوغ هو شيء تعرض للضغط والحشر بطريقة ما. تفسير المضغة بأنها الجنين في الرحم عندما لا يكون الشكل واضحًا، ويكون شبه الشيء الممضوغ، هو تفسير ظاهري وسطحي، ولا يمكن قبوله بهذه البساطة. الصحيح أن المضغة سميت مضغة لأنها تعرضت لعملية ضغط مع انحشار كما يشير جذر الكلمة، وهذا يتفق تمامًا مع الاكتشافات العلمية. بعد مرحلة تكوين الثماني خلايا (العلقة) تستمر عملية الانقسام، وعندما يصل عدد الخلايا إلى 16 أو 32 يطلق على هذه الخلايا اسم توتية؛ إذ يوجد بين الخلايا بعضها بعضًا فجوات، وتعد الخلايا في هذه الحالة غير متماسكة نوعًا ما، فلكي تصبح الخلايا متماسكة تُضْغط الخلايا معًا وتُحشر في حيز صغير لتقليل الهيكل المائي للخلايا، وتسمى هذه العملية عملية الانحشار، وهذه المرحلة هي ما تعرف بالمضغة.

 كل هذا وما زالت الخلايا حبيسة المنطقة الشفافة في البويضة، ولم تستقر مجموعة الخلايا في الرحم بعدُ. في بداية هذه المرحلة - مرحلة الانحشار- يصعب تمييز الخلايا، ولكن مع استمرار الانقسام يصبح من السهل تمايز الخلايا وتحديدها.

تفسيرات القدماء حول موضوع المضغة، فضلًا عن كونها مخلقة وغير مخلقة، كتفسير ابن كثير، وتفسير الطبري وغيرهم، لا يمكن أن يُحمل على محمل الحقيقة، فهو مجرد اجتهاد ومحاولة مشكورة، ولكنه تأويل تخطاه الزمن وغير مطابق للحقائق، بالإضافة إلى أن معاني الكلمات العربية بعيدة تمامًا عمَّا ذهب إليه المفسرون.

لعل الإنسان يتساءل: كيف يكون القدماء أقل معرفة بالألفاظ منا نحن الذين لا نحسن التحدث باللغة وجل حديثنا فيه لحن؟

قد تكون هذه الفرضية صحيحة إلى حد كبير؛ لو أن اللغة من إنتاج البشر، ولكن ماذا لو أن اللغة من وحي الله، والبشر مستخدمون فقط لهذه اللغة؛ وكعادة البشر جرى التحريف على معانٍّ كثيرة، وتجريف لمفاهيم عديدة، وأسماء سماها البشر ما أنزل الله بها من سلطان (انظر الجزء الثاني عن نشأة ونظريات اللغة، وعلاقة ذلك بقول الله ﴿علَّم آدم الأسماء﴾.

فهم الكلمات القرآنية مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالكون وحقائقه، و ببساطة شديدة كلما تكشفت المعارف تكشف معها المقصود من اللفظ ومدلوله. مهما أوتي القدماء من معرفة فلا يمكن من خلال اللفظ وحده ومدلوله لدى الإنسان القديم تحديد ماهية الأشياء، فقد كان الإنسان في القديم يميل إلى تجسيد المعاني ليسهل فهمها، بينما اللفظ القرآني يصف حالة معينة أقرب للتجريد منها للتجسيد، وتحتاج لقدرات عقلية متقدمة لفهم ما تؤديه بشكل صحيح. فكما ذكرنا في وصف العلقة ومدول الكلمة في كتاب الله وأنها تعني حالة علاقة بين شيئين، أو تعلق شيء بشيء آخر إلا أن العقل العربي حاول جاهدًا فهم العلقة من خلال تجسيدها في صورة حسية، فمرة وصفها على أنها كتلة محسوسة من الدم المتخثر، ومرة أخرى شبهها بالدودة التي يسميها الناس العلقة. هكذا ظل العقل حبيس التجسيد بسبب سهولة استيعاب وفهم المسميات بهذه الطريقه. تجسيد المسميات جعل من اللغة كائنًا جامدًا لا يواكب الحداثة، بينما الحقيقة أن المسميات، كما جاءت في كتاب الله، هي وصف لحالات معينة تشمل صفة هذه الحالة وخصائصها بشكل دقيق، مما يجعها متجدده، تستوعب النظريات العلمية والمعرفية التي جاء بها الكتاب.

مثال شديد الوضوح.. ذلك المثال الذي ضربته المضغة المُخلَّقة وغير المخلقة على هذا الزخم المعرفي الذي يزخر به كتاب الله، فلو عرف القدماء معنى المضغ على أنه الضغط والانحشار، فمن أين لهم معرفة ما يحدث للخلايا؟ وكيف لهذه الخلايا أن تقلل الهيكل المائي حولها من خلال ضغط وحشر نفسها، مع العلم أن هذه المعرفة الخاصة بالخلايا، وما يحدث لها حديثة جدًّا، معذورون السابقون فيما ذهبوا إليه، ونحن آثمون إذا سرنا خلفهم واعتمدنا على معارفهم، وجعلناها حَكَمًا على معارفنا. حاول القدماء تجسيد معنى المضغة إذ لا يمكن فهمها إلا من خلال تجسيدها في صورة حسية، فقالوا عنها إنها تشبه الجزء الممضوغ، بينما هي في حقيقتها تصف حالة من الضغط والانحشار حرفيًّا، تتم على مجموعة الخلايا. كل كيان يحدث له ضغط وانحشار بهذه الطريقة؛ يصح معه أن نسميه مضغة ما دام يحقق شروط الحالة التي تصفها كلمة مضغ.

المضغة المخلقة والمضغة غير المخلقة

جلّ تفاسير القدماء حول المضغة المخلقة والمضغة غير المخلقة، تدور حول خمس حالات أنقلها هنا دون زيادة أو نقص.

 الأولى: أن المخلَّقة ما خُلق سويًّا، وغير المخلَّقة: ما ألقته الأرحام من النطف، وهو دم قبل أن يكون خَلْقاً، قال به ابن مسعود.

والثانية: أن المخلَّقة ما أُكمل خَلْقه بنفخ الروح فيه، وهو الذي يُولَدُ حيًّا لتمامٍ؛ وغير المخلَّقة ما سقط غير حيٍّ لم يَكْمُلْ خَلْقُه بنفح الروح فيه، وهذا معنى قول ابن عباس.

والثالثة: أن المخلَّقة المصوَّرة، وغير المخلَّقة غير مصوَّرة، وقال به الحسن.

والرابعة: أن المخلَّقة وغير المخلَّقة: السقط، تارة يسقط نطفة وعلقة، وتارة قد صُوِّر بعضه، وتارة قد صُوِّر كلُّه، قال به السدي.

والخامسة: أن المخلَّقة التامة، وغير المخلَّقة السقط، قال به الفرَّاء، وابن قُتَيبة.

حتى تفسيرٌ كهذا يمكن الاعتراض عليه عن طريق اللغة فقط، وأقوال المفسرين تدور حول مضغة مخلقة أو غير مخلقة، أي أن هناك احتمال من احتمالين، بمعنى إما مخلقة: جنين يكتمل نموه، أو غير مخلقة: يسقط ولا يصبح جنينًا؛ بينما يحكي القرآن أن المضغة المخلقة وغير المخلقة يكونا معاً، أي أن الاحتمالين قائمين معًا، وليس احتمال واحد هو القائم ﴿مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ﴾. 

فلله الحمد والمنة الذي تعهد بحفظ كلامه، ليبقى كتاب الله دائمًا هو الأرض الصلبة التي نقف عليها وننطلق منها؛ فالوصف القرآني البديع للمضغة المخلقة وغير المخلقة لا يضاهيه وصفٌ، فهو كتاب الله المُعجز الذي ينطق بالحق.

بعد عملية الضغط والانحشار التي تحدث للخلايا لتقليل الهيكل المائي، تبدو كتلة الخلايا كتلة متماسكة غير متمايزة ومتشابة؛ أي كأنها كتلة واحدة. مع استمرار الانقسام تبدأ الخلايا في التمايز إلى مجموعتين، أي أنها تتحول شيئًا فشيئًا إلى مجموعتين مختلفتين، إحداهن طبقةٌ خارجية من الخلايا تسمى الأرومة المغذية، وطبقة داخلية تسمى كتلة الخلايا الداخلية. إذن المضغة هنا قد انقسمت إلى طبقتين، طبقة خلايا خارجية وكتلة خلايا داخلية ؛ كتلة الخلايا الداخلية هذه سوف تؤدي إلى تكوين الجنين نفسه (المضغة المخلقة)، أما الطبقة الخارجية من الخلايا فهي ما ستصبح الجزء الجنيني للمشيمة، الذي يحفظ الجنين، ويكون الوعاء الخارجي له (مضغة غير مخلقة). يتم هذا التمايز أو هذا الانقسام في بداية الأسبوع الثاني من التلقيح، وقبل الاستقرار في الرحم. يجب أن نشير إلى أن بعض التفسيرات الحديثة لمراحل تكوين الجنين قد تناولت تمايز الخلايا إلى طبقة داخلية وطبقة خارجية، ولكنها اعتبرت هذا التمايز يحدث في الرحم، تفاديًا للوقوع في إشكالية العلقة، إذ تتحدث التأويلات أيضًا على أن العلقة هي مرحلة تأتي بعد استقرار الجنين في الرحم.

من خلال فهمنا للعلقة والمضغة ومرحلة المخلقة وغير المخلقة؛ يتضح أن كل هذه المراحل قد تمت قبل الانغراس أو الاستقرار في الرحم. انظر إلى دقة الوصف القرآني والترتيب في الآية التالية.. مرحلة النطفة، ثم العلقة، ثم المضغة، ثم تمايز المضغة إلى مضغة مخلقة وغير مخلقة، ثم تنتهي هذه المرحلة بقول الله سبحانه ﴿لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ﴾

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ﴾ (سورة الحج: الآية 5). ثم يخبرنا ربنا عن تتمة الأمر بقوله ﴿وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ (سورة الحج: الآية 5).

الآية الكريمة تعرضت للمراحل الأولى لتكوين الجنين، بالإضافة إلى أن تمايز المضغة إلى مخلقة وغير مخلقة يكون قبل الاستقرار في الرحم؛ الترتيب هنا لم يأتِ هكذا، ولكن بترتيب المراحل. لقد تمت كل المراحل قبل أن يخبرنا ربنا بمرحلة الاستقرار في الرحم ﴿وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ إنه تقدير الحكيم الخبير.

تستغرق هذه المراحل الثلاث ما يقارب الأسبوعين، تكون فيها مجموعة الخلايا وحتى وصولها إلى مرحلة التمايز لمضغة مخلقة وغير مخلقة، حبيسة منطقة شفافة داخل البويضة، ولم تستقر بعدُ أو تغرس في الرحم كما ذكرنا؛ وفى بداية الأسبوع الثالث، ومع استقرار الخلايا وانغراسها في الرحم، تبدأ المضغة المخلقة، والتي قلنا إنها الطبقة الداخلية من خلايا المضغة، تبدأ في الانقسام إلى مجموعتين أخريين من الخلايا.

تكوين العظام

لقد كان الاعتقاد السائد منذ وقت قريب أن مرحلة تكوين العظام تبدأ مع بداية الأسبوع الخامس، بقدر المعارف والمشاهدات المتاحة وقتئذ، ولكن مع التقدم في وسائل الرصد والتحليل تبيَّن أن عملية تكوين العظام تسبق ذلك بكثير؛ إذ تبدأ تقريبًا مع بداية الأسبوع الثالث على وجه التحديد.

أنتقلُ للوصف العلمي دون تدخل مني؛ الجزء الداخلي للخلايا الذي بدوره سيصبح جنينًا، عبارة عن قرص ثنائي الطبقات (طبقة عليا أو خارجية، وطبقة تحتية أو داخلية)؛ في بداية الأسبوع الثالث تبدأ عملية إعادة تنظيم الطبقات الثنائية الجنينية، وهي الطبقة الخارجية والطبقة الداخلية إلى ثلاث طبقات، يطلق عليها طبقة خارجية، وطبقة متوسطة، وطبقة داخلية أو باطنية، هذه الطبقات الثلاث تقوم بتكوين ما يعرف باسم الجسيدات، والأنسجة، والأعضاء فيما بعد.

ما هي الجسيدات ؟

يُعرِّف العلم الجسيدات على أنها كتل زوجية من خلايا الطبقة المتوسطة تعد - إن صح التعبير - بذرة تكون الهيكل العظمي والعضلات والغضاريف؛ انظر مرة أخرى إلى الآية الكريمة في سورة المؤمنون التي تصف هذه المرحلة .

﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ (سورة المؤمنون: الآية 14)

يظهر أول زوج من خلايا الجسيدات بعد 20 يومًا من عملية الإخصاب، ويُضاف زوج من الخلايا كل 90 دقيقة حتى اكتمال 44 زوجًا من خلايا الجسيدات؛ تُشكَّل الجسيدات لتتطور وتكوِّن ما يسمى بالفقرات، التي ستصبح فيما بعدُ العمود الفقري، ثم يتم لاحقًا تطوير الجزء الخاص بالعضلات، أو ما نسميه باللحم.

 تستمر عملية تطوير الجسيدات لتكوين الهيكل العظمي والعضلات والغضاريف حتى ثمانية أسابيع، يُعرف خلالها الجنين باسم الجنين الجرثومي أو غير الحي؛ ويكون الجنين في هذه المرحلة عبارة عن كتلة من الخلايا، والتي تتطور وتنقسم دون حياة حقيقة.

 ثم تأتى المرحلة الثانية وهي الجنين الحي؛ وهنا حدث تحوُّل كامل من صورة إلى صورة أخرى، ذكره الله سبحانه وتعالى ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ﴾ نعم إنه خلق آخر، فتحوُّل الجنين من جنين جرثومي، أو جنين غير حي، إلى جنين حي، هو بالطبع تحوُّل كامل وخلقٌ آخر.

الحقيقة أنني أعتقد أن مرحلة الخلق الآخر تحمل أكثر بكثير من مجرد تحول من جنين جرثومي إلى جنين حي، وربما تتبع التطور على مستوى الخلايا يكشف لنا أسرارًا مبهرة، ولكن الحقيقة ليس لديَّ في الوقت الحالي معلومات كافية أستطيع أن أستند إليها، وأنا مطمئن القلب في تأويل وشرح مفهوم خلق آخر، ولعل مع تقدم العلوم وتطوره، تتكشف لنا حقائق نتمكن من خلالها سبر أغوار تلك المرحلة المختلفة كليًّا عما قبلها.

العَلَقْ

ها نحن أمام الآية الثانية من سورة العلق ﴿خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾ التي فسرها المفسرون على أنها كتل الدم المتخثرة الغليظة؛ وهذا التفسير كما بينا هو تفسير لا يمتُّ لجذر الكلمة بصلة، بل وخطأ علمي فادح. كلمة علق جمع مفرده علقة، ومسألة أنها كتلة الدم المتخثر هذه قد ثبت خطأها علميًّا، فلو كانت علق وهي جمع علقة تعني ذلك الشيء المتعلق بالرحم، كما ذهب أغلب الشرَّاح، فهذا معناه أن الإنسان خلق من أكثر من علقة في الرحم، وهذا غير صحيح ؛ فالشيء المتعلق بالرحم - على حد وصفهم - هو كتلة واحدة وليس مجموع كتل مختلفة. الأصح لديَّ أن علقة كما شرحتُ في بداية الفصل هي أول علاقة تمت بين كتلة الخلايا وجسم الأم، عندما استجابت كتلة تلك الخلايا بعد 24 ساعة من الإخصاب للمؤثرات الفسيولوجية، وارتبطت بجسم الأم؛ وهكذا كلما تطور نمو الجنين زاد عدد العلاقات، أو بمعنى آخر.. علق الجنين بصورة ما وبشكل معين، سواء بجسم أمه أو ببيئته المحيطة، وبتراكم تلك العلاقات كونت في النهاية الإنسان، وميَّزته عن باقي المخلوقات.

 مما يعزز استدلالي بأن المقصود بالعلقة هنا هو العلاقة، سواء كانت مرئية بالنسبة لنا، أو محسوسة، أو غير مرئية، أو حتى على مستوى العلاقات النفسية، هو لفظ علاقة غير موجودة بالأساس في كتاب الله. علقة لفظ يصف تعلق شيء بشيء في مسألة واحدة أو علاقة واحدة. يمكن اعتبار أن أول استجابة فسيولوجية تمت بين كتلة الخلايا والأم علقة، وإذا نشأت علاقة أخرى مثلًا لتنظيم عملية التنفس، فيمكن تسميتها علقة أيضاً، وعلاقة أخرى تنظم عملية التغذية يمكن اعتبارها علقة ثالثة وهكذا؛ وعندما يخرج الجنين إلى الحياة طفلًا يبدأ في تكوين علاقات متعددة إلى يوم وفاته، وانقطاع علاقته بتلك الحياة.

الإنسان هو بالمجمل مجموع لا نهائي من العلاقات، سواء فسيولوجية أو فيزيائية، أو نفسية، أو معرفية؛ كل علاقة فردية من هذه العلاقات تعد علقة؛ والتفاعل بين هذه العلاقات بعضها بعضًا هو في النهاية ما يميز الإنسان عن غيره. بسبب هذا العدد غير النهائي من العلاقات وتشابكها وتفاعلها، يصعب بل يستحيل الحكم على إنسان من خلال السلوك الإنساني غير المقاس، مثل الكذب، والصدق، والنفاق، والصراحة، والإيمان، والكفر. يمكننا الحكم استدلالًا ببعض الظواهر التي استطعنا رصدها، ولكن هذا القياس ليس حقيقيًّا بالمرة ولا يمكن أن نبني عليه تصورات حقيقة؛ فكم من ممثلٍ بارعٍ يستطيع إقناعك بعكس ما يضمر، وكم من القصص الجاسوسية التي تخبرنا كيف أن الجاسوس استطاع أن يعيش ويقنع كل من حوله بوطنيته وإخلاصه. لقد حذر كتاب الله من الوقوع في فخ التزكية، وقرر صعوبة الحكم على السلوك البشري حُكمًا حقيقيًّاعندما قال ﴿فلا تزكوا أنفسكم﴾ في سورة النجم.

 ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ﴾ (سورة النجم: الآية 32).

كذلك لدينا شاهد آخر يحذر من الحكم على الإنسان أو الثقة المفرطة في أحد، من خلال ما ورد في كتاب الله مخبرًا رسوله الكريم بأن هناك من أهل المدينة منافقين لا يعلمهم الرسول ولكن الله يعلمهم. لك أن تتخيل وجود منافقين حول رسول الله، ورسول الله لا يعلمهم، هذا ليس قدحًا بقدر ما هو جرس إنذار للإنسان، بألَّا يعطي شيكًا على بياض لأحد، ولا يفرط في الثقة بسبب تشابك العلاقات التي تكون الإنسان، وتفاعلها مع بعضها بعضًا. 

 ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ﴾ (سورة التوبة: الآية 110).

 هذه الإشارات في كتاب الله تقرر ما لا يدع مجالًا للشك استحالة الحكم على الإنسان حُكمًاحقيقيًّا؛  فلو أردت أن تحكم على إنسان من خلال سلوك معين، ويكون حكمك حكمًاحقيقيًّا فيجب أن تحصي جميع العلاقات التي كونت هذا الإنسان وميزته منذ لحظة تكوينه الأولى، وهو ما زال لم يستقر بعدُ في الرحم وحتى اللحظة التي ترغب في الحكم عليه خلالها، ثم ضع هذه العلاقات في مصفوفة رياضية مع القيم الإنسانية، وإعطاء هذه القيم الإنسانية قيمًا محددة، ثم إيجاد قانون تستطيع من خلاله حساب هذه العلاقات، وإعطائها قيمًا بناءً على القيم الإنسانية، فإذا استطعت إنجاز ذلك - وهو مستحيل - فالشك ما زال قائمًا في حصولك على نتائج حقيقة.

 لذلك تقوم العلوم في الدنيا على قوانين ودلائل مقاسة، أما إذا اسْتُبدلت الأشياء المقاسة بآراء شخصية، مثل صادق لأني لم أجرب عليه الكذب،  أو أنه مخلص في قوله أو دقيق في معرفته أو يفهم أكثر من غيره، هذه أشياء إن أحسنا الظن بها، وضعناها في ميزان التاريخ تحت بند الآراء الشخصية. يجب التعامل مع الأحداث التاريخية بحذر شديد، ولا يتعامل مع أحداث تاريخية مثل هذه كمسلمات إلا ساذج.

فقط لو استطعنا أن ندرك صعوبة الحكم على السلوك النفسي للإنسان لما وقعنا في أخطاء مدمرة ومهلكة لهذه الأمة، بسبب تبنيها وجهات نظر ورؤى شخصية والقتال من أجلها .

لقد اكتشفنا حديثًا، عندما زاد اطلاعنا، كمَّ التزوير الحادث في التاريخ، وكيف أن التاريخ يكتبه الأقوياء ويُلعن فيه الضعفاء؛ بل والأكثر من ذلك يُزَوَر الحاضر أمام أعيننا، ومع ذلك تجد من يصر على أنه يملك الحق في إصدار الأحكام على أشخاص عاشوا في الماضي، لا ندري عن العلاقات التي تحكمهم شيء، ولا الواقع الذي عايشوه، ولا الظروف التي أحاطت بهم.

كان يلزمنا تدبر خلق الإنسان، وفهم ما هو العلق، لندرك أن الإنسان مجموعة من العلاقات المتشابكة وغير المنتهية؛ هذا الفهم كفيلٌ بوضعنا على الطريق الصحيح، وترك الحكم على الأشخاص ومحاولة تقييم الأفكار، والتعامل مع الروايات البشرية على أنها روايات تاريخية لا أكثر. سورة العلق من أعظم السور في كتاب الله، والتي تحتاج إلى مجلد لمحاولة تأويلها

﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)﴾ (سورة العلق: الآيات 1- 4).

سورة تحوي كنوزًا معرفية لا تنتهي، فبدايتها اقرأ وهي مفتاح المعرفة، ثم ترشد إلى طريقة التعلم الرائعة وهي التعليم بالقلم، وعلاقتهما بالعلق. (انظر الجزء الثاني – فصل علَّم بالقلم)

الآن.. هل يمكننا وضع تعريف للإنسان بناء على هذه المعلومات التي بين أيدينا؟

مئات التعريفات حاولت تعريف هذا الكائن الفريد، بداية بمن قال إن الإنسان حيوان ناطق، أو اجتماعي، أو سياسي، أو حيوان عاقل، أو حتى ضاحك. يبدو لنا أن الإنسان خلق من علق، فهو عدد لا نهائي من العلاقات النفسية، والحسية، والمعرفية، ولعل العلاقات التي ميزت هذا الكائن الفريد عن باقي المخلوقات هي تلك العلاقات المعرفية وتفاعلها مع بعضها بعضًا، وارتباطها وانسجامها مع باقى مكونات الكون. الإنسان كائن خُلق من علاقات، أو كما قال ربنا خُلق من علق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الصفحة الرئيسية

ثلاثية تلك الأسباب - الجزء الأول

أكثر الصفحات مشاهدة