الفصل الرابع
كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا
خلال
مرحلة العمليات التجريدية يصبح الصغير قادرًاعلى فهم وتمييز المفاهيم التجريدية،
مثل الحياة والموت، ويصبح مدركًا لمفهوم الخالق، ومفهوم العبادة.
يحكي أحدهم أن شيخًا ومعلمًا كان يعلم
تلاميذه أصول العقيدة، ومعنى لا إله إلا الله، وكان يكثر من قول لا إله إلا الله
أمام تلاميذه. ذات يوم أحضر له أحد تلاميذه ببغاء، لأن هذا الشيخ كان مغرمًا
بتربية الطيور وحبها. فأحب الشيخ الطائر وكان يصحبه معه كل يوم إلى الدرس. من كثرة
ترديد الشيخ وتلاميذه لكلمة لا إله إلا الله صار الببغاء يرددها بكثرة كما صاحبه.
كانت
هذه الحالة مبهرة بالنسبة لتلاميذ وقاصدي الشيخ من طالبي العلم، وذات يوم غاب
الببغاء عن أحد دروس الشيخ. لما سأل التلاميذ شيخهم عن الببغاء المعجزة، فبكى
الشيخ! فتساءل تلاميذه ما يبكيك يا شيخنا؟ فقال لهم لقد مات الببغاء! وكيف مات؟
هاجمه قط وأكله. حاول الطلاب تطييب نفس الشيخ ومواساته، ثم أخبروه أنهم بإمكانهم
إحضار ببغاء آخر لو رغب في ذلك. فقال الشيخ ليس هذا مايبكيني، و إنما بكيت لأن هذا
الببغاء ظل يردد طول حياته لا إله إلا الله، ولما هاجمه القط ظل يصرخ ونسي لا إله
إلا الله. لأنه كان يقولها بلسانه ولم يقلها بقلبه.
مع
رمزية القصة وبساطتها توضح الفرق بين النطق والكلام، فما كان يفعله الببغاء هو
إصدار أصوات لها مدلول عند السامع، ولا يمكن وصفها بالكلام. عملية الكلام لا بد أن
تكون صادرة عن عقول وصلت لمرحلة معقولة من التطور، حتى يمكنها الاستنتاج،
والاستدلال، والتفكير، والقياس .
هل ما
قام به الببغاء آية؟ بالطبع لا، ولكن لو أن الببغاء كان يقصد ما ينطق، وقال ما قال
عن طريق الاستدلال والمنطق هنا تكون الآية أو المعجزة، كما يحلو للكثيرين أن يصفوها.
لا بد أن نتوقف كثيرًا عند استخدام كلمة معينة
في وصف مشهد قرآني مع وجود ألفاظ قرآنية أخرى يمكن بتصورنا أن تؤدي المعنى بالضبط،
وخصوصًا إذا تكرر هذا المشهد في كتاب الله، وكان مقصورًا على استخدام الكلمات
ذاتها دون غيرها من الكلمات القرآنية. لا يمكن أن نساوي بين النطق، والحديث،
والخطاب، والقول، والكلام، ونعتقد أن كل تلك الكلمات تؤدي نفس المعنى، أو أننا
نعتقد أن طفلًا وصبيًّا و فتى وغلامًا كلها تحمل نفس المعنى، ويمكن أن تحل إحداهن
محل الأخرى دون فرق في المعنى.
إذا
جاء اللفظ القرآني بصيغة معينة، فإن اللفظ هنا يقصد ويصف الحالة وصفًا حقيقيًّا
لأنه كتاب ينطق بالحق. سنأتي على هذا الاستدلال اللغوي كاملًا بعد قليل، ولكن قبل
ذلك دعوني أمر سريعًا على مراحل تطور القدرات العقلية عند الطفل، والمسئولة عن
استخدام الكلمات وأصواتها.
القدرات
العقلية من النطق إلى الكلام
يمر
الطفل بمراحل مختلفة ومعقدة وهو في طريقه إلى الكلام، إذ تبدأ العملية ذاتها
بالنطق، وهي محاولة إصدار أصوات لها معنى، ثم المحاكاة والتقليد، والتي يمكن أن
نسميها حديثًا، إذ ينقل حدثًا معينًا بما هو متاح لديه من كلمات، ثم مرحلة الكلام
وهي مرحلة تحتاج لتطوير قدرات الطفل العقلية، وقدرة معينة على التفكير المنطقي،
والاستنتاج، والاستدلال.
قسَّم
العلم تلك المراحل إلى أربع مراحل، كالتالي:
المرحلة
الأولى: وهي
الحسية: وتبدأ من سن صفر وحتى عامين، وهي سن الاكتشاف والتعرف على البيئة المحيطة
به، عن طريق المقارنة البسيطة بين الخبرات التي اكتسبها من مهارته، وبين قدراته
الحركية. في هذه المرحلة تبدأ قدرته على التركيز الذهني بالتطور، فيستطيع خلق
صورته الخاصة عن الأشياء البسيطة، لكي يتمكن من فهمها والتعبير عنها. يبدأ الطفل
في هذه المرحلة في التعرف على الأشياء وعلى أسمائها، وما أن تحين لحظة النطق إلا
ويستخدم أصواتًا معينة؛ يكون في البداية من الصعب فهمها، ثم يبدأ الطفل في تقليد
الأسماء من خلال سماعه لها ونسخها صوتيًّا. في عمر عام ونصف إلى عامين، يكون لدى
الطفل ما يقارب 20 - 50 كلمة يستطيع أن يعبر بها عن الأشياء حوله، وفي هذه المرحلة
يُلاحظ أن الطفل يحاول تركيب جمل بسيطة، وتتطور قدرته على التخاطب بشكل ملحوظ من
سن عامين إلى ثلاثة.
المرحلة
الثانية: هي
مرحلة ما قبل العمليات المنطقية، وتستمر هذه المرحلة تقريبًا من عمر عامين وحتى 6
أو 7 سنوات. تتطور خلال هذه المرحلة قدرات الطفل الذهنية بشكل ملحوظ، وتسيطر عليه
في هذه المرحلة الألعاب التخيلية، ويبدأ في تشكيل صورة عن الواقع محاولًا التعبير
عنها في شكل كلمات أو رسومات. في هذه المرحلة تزداد تساؤلات الطفل في محاولة منه
لفهم ما يدور حوله. يعتقد الطفل في هذه المرحلة أنه محور الكون، فيكون تفكيره
منصبًا حول ذاته، وحول وجهة نظره للأمور، وليس لديه القدرة على فهم وجهات النظر
الأخرى، كما أن مبدأ الاحتفاظ بالأشياء يكون غير واضح لديه.
المرحلة
الثالثة: هي
مرحلة المحسوس والملموس بالنسبة له، وتبدأ هذه المرحلة مباشرة بعد مرحلة ما قبل
العمليات المنطقية، وتستمر حتى سن الحادية عشر. تبدأ في هذه المرحلة ظهور علامات
التفكير المنطقي لدى الطفل في الظهور، إذ يعتمد في هذه المرحلة التفكير المنطقي
القائم على عمليات عقلية مرتبطة بالأشياء المحسوسة والملموسة بالنسبة له. تمحوره
حول ذاته في هذه المرحلة يبدأ بالتلاشي شيئًا فشيئًا، وتتطور بالتالي لديه القدرة
على فهم وجهات نظر الآخرين ويظهر لديه مبدأ الاحتفاظ بالأشياء ولكنه يبقى غير قادر
على التفكير المنطقي التجريدي.
المرحلة
الرابعة: وهي
مرحلة التجريد أو العمليات التجريدية، وتبدأ هذه المرحلة من سن 11 أعوام، وعندها
يصبح الطفل قادرًا على الاستنتاج والاستدلال في حل ما يلاقيه من مشكلات ومعضلات.
في هذه المرحلة أيضًا يصبح قادرًا على فهم وتمييز المفاهيم التجريدية، مثل الحياة،
والموت، ويصبح مدركًا لمفهوم الخالق، ومفهوم العبادة.
تلك هي
المراحل الطبيعية لتطور قدرات الطفل العقلية التي تمنحه القدرة على استخدام كلمات
وجمل يستطيع من خلالها التعبير عن أفكاره. إذا تكلم طفل صغير بمنطق واستدلال حقيقي
هو لا شك أمر خارق ويعد من الآيات؛ وإنما إذا أحسن الكلام في مراحله الطبيعية فهو
نعمة.
عندما
نتحدث عن المعجزات ونحاول فهم الخوارق من وجهة نظر العلم؛ لا بد لنا من أن نفصِّل كل شيء تفصيلًا، ونطرح
الأسئلة ونمارس الاحتمالات رغبة في الوصول للحقائق المنطقية.
فيما
يسمى - تجاوزًا - معجزة كلام نبي الله عيسى، وهو رضيع والله لم يسمها كذلك، وإنما
عدَّها نعمة كما سنرى، لفت نظري أن الآيات التي تتحدث عن هذا المشهد هي ثلاث آيات
في كتاب الله، جميعها ذكرت لفظ يكلِّم ولفظ مهد بالإضافة إلى وصفه بالصبي بدلا عن
الطفل.
لأن
الفهم الظاهري للآيات يدل على كلام عيسى عليه السلام وهو رضيع، فالمهد هو المكان
المعد للصغير، وبما أن ترتيب الآيات يوحي بذلك، مع أن الله سبحانه وتعالى لم يقل
عن هذا الأمر أنه آية أي علامة، وإنما ذكره على أنه نعمة من الله:
﴿إذْ
قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى
وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ
وَكَهْلًاوَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ
وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي
فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ
وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ
بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ
كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ (سورة المائدة : الآية
110).
عندما
يخبرنا كتاب الله عن آية، فيكون في الغالب المراد تدبرها، تكون خارج قدرات البشر
في ذلك الوقت أو شيء خارج المعتاد في ذلك الزمان. أما إذا ذكر كتاب الله شيئًا ما
وعدَّه نعمة فذاك يعني تفضلًا وزيادة
كان
لهذه المقدمة أهمية قصوى في بيان ما سنعلنه من نتائج حول النعمة التي أنعمها الله
على نبيه عيسى، والتي يعتقد الناس أنها معجزة أو آية.
هل
تكلم نبي الله طفلًا أم صبيًّا؟ وهل نطق أم تكلم أم تحدث؟ وماذا يعني المهد؟
الخواطر القرآنية
يقول
الله سبحانه وتعالى في سورة مريم:
﴿فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا(29)﴾ (سورة مريم: الآيات 26-29).
سأعرض أقوال المفسرين لآية ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا﴾ (سورة مريم: الآية 29) كما وردت عند ابن كثير:
قال
ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ
مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا﴾ (سورة مريم: الآية 29).أي أنهم لما استرابوا في
أمرها، واستنكروا قضيتها، وقالوا لها ما قالوا معرضين بقذفها ورميها بالفرية، وقد
كانت يومها ذلك صائمة صامتة، فأحالت الكلام عليه، وأشارت لهم إلى خطابه وكلامه،
فقالوا مُتَهَكِّمين بها، ظانِّين أنها تزدري بهم وتلعب بهم: كيف نكلم من كان في
المهد صبيًّا؛ قال ميمون بن مهران (فأشارت إليه) ، قالت: كلِّموه ، فقالوا
على ما جاءت به من الداهية تأمرُنا أن نكلم من كان في المهد صبيًّا! وقال السّدي:
لما أشارت إليه غَضِبُوا ، وقالوا: لسخريتها بنا حين تأمُرُنا أن نكلِّمَ هذا
الصبي أشدُّ علينا من زناها ﴿كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا﴾
أي: مَنْ هو موجودٌ في مهده في حال صباه وصغره، كيف يتكلم؟" انتهي التفسير.
على
نفس هذا النهج ذهب جلُّ المفسرين الذين وقَفْتُ عليهم، أمثال الطبري،
والقرطبي، وتفسير الجلالين، وتفسير البغوي، وتفسير ابن عاشور.
فى
تفسير السعدي: فأشارت لهم إليه، أي: كلّمُوه. وإنما أشارت لذلك، لأنها أُمرَتْ عند
مخاطبة الناس لها أن تقولَ "إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ
أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ْ" فلما أشارت إليهم بتكليمه، تعجبوا من ذلك
وقالوا: ﴿كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ْ﴾، لأنَّ ذلك
لم تجرِ به عادة، ولا حصل من أحد في ذلك السن". انتهى.
يقول
محمد متولي الشعراوي في تفسير هذه الآية ما قال به المفسرون، إلا أنه استنتج لماذا
أشارت السيدة مريم إلى وليدها عندما كلمها قومها كي يكلِّمُوه، مع أنه مع القياس
لا يتكلم! ومِنْ أين علِمتْ أنه سوف يتكلم؟
يقول
الشيخ: إن من ناداها من تحتها في حالة المخاض هو عيسى عليه السلام، وقال لها كما
حكى ذلك القرآن الكريم :
﴿فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا (26)﴾ (سورة مريم: الآيات 24-26 ).
اختلف المفسرون فيمن ناداها تحتها على قولين، كما جاء في تفسير ابن كثير؛ فقال العوفي وغيره، عن ابن عباس: ﴿فناداها من تحتها﴾ أي جبريلُ ، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها؛ وكذا قال سعيد بن جبير، والضحَّاك، وعمرو بن ميمون، والسدي، وقتادة: إنه الملَكُ جبريل عليه السلام، أي : ناداها من أسفل الوادي.
أما
مجاهد فقال عن ﴿فناداها من تحتها﴾ أنه عيسى ابن مريم، وكذا قال عبد الرزاق،
عن معمر، عن قتادة قال: قال الحسن: هو ابنُها ، وهي
إحدى الروايتين عن سعيد بن جبير: أنه ابنُها.
هذه باختصار أقوالُ المفسرين في مشهد قدوم
السيدة مريم إلى قومها ومعها وليدها كما ذكره القرآن. من الواضح أنه لا يوجد إجماع
على من ناداها من تحتها، وإن كنت أرجح القول بأن من نادها من تحتها هو رسول ربها
أيًّا كان هذا الرسول.
لكي
نستطيع أن نستخلص المعنى، فلا بد أن ندرك المعنى الحقيقي، والبعد اللغوي لكلمة طفل
وصبي، وكلمة مهد، وجذور لفظة "كلَّم" وما المقصود بكلمة تَحمِلُه، ولا
بد أيضًا أن نستوضح فعل "كان" الذي جاء في الآية الكريمة ﴿كَانَ فِي
الْمَهْدِ صَبِيًّا ْ﴾.
فعل كان
ورد فعل
"كان" الذي في الآية الكريمة بعدة تفسيرات، مثل تفسير البغوي الذي جاء
فيه "كان" بمعنى: هو . وقال أبو عبيدة : "كان" صلة،
أي : كيف نكلم صبيًّا في المهد. وقد تأتي "كان" حشوًا في الكلام لا معنى
له، كقوله: ﴿هل كنت إلا بشرًا رسولًا﴾ (سورة الإسراء: الآية 93)
أي : هل أنا؟
من
يقول إن لفظة كان حشوًا، قوله مردود عليه، و قول لا يعتد به، فلا يمكن أن يكون في
القرآن حشو، وليس من المنطق كلما عجز شخص عن تفسير شيء في القرآن قال بنسخه أو
بزيادته أو أنه مجاز. أما تفسير كان بمعنى هو، فذلك القول أيضًا مجرد رأي لا دليل
لغوي عليه.
إذا
انتقلنا إلى تفسير القرطبي نجده يقول: "وكان هنا ليس يراد بها الماضي؛ لأن كل
واحد قد كان في المهد صبيًّا، وإنما هي في معنى هو الآن. ويستطرد القرطبي في تفسيره
فيورد أن أبا عبيدة قال: كان هنا لغوٌ. والحقيقة أيضًا أنَّ قول أبي عبيدة
ليس له اعتبارٌ في كون كان لغوًا، وتفسير القرطبي لفعل كان بمعنى الآن غير دقيق
لغويًّا.
أما في
تفسير الطبري فقد أورد: "قال قومها لها: كيف نكلم من وجد في المهد؟ وكان في
قوله ﴿كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا
ْ﴾ معناها
التمام، لا التي تقتضي الخبر، وذلك شبيه المعنى بكان التي في قوله ﴿هَلْ كُنتُ
إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا﴾ (سورة الإسراء: الآية93 ) وإنما معنى ذلك: هل أنا
إلا بشرٌ رسول؟
يمكن
أن نفهم فعل كان من خلال الآية الكريمة التى استدل بها المفسرون من سورة الإسراء
﴿هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا﴾. عندما قال رسول الله: هل كنت، فهو يصف
حاله منذ حمله الرسالة، وحتى اللحظة التي يكلم فيها الناس. أعتقد أن فعل كان في
الآية الكريمة يصف حال الصغير منذ دخوله مرحلة، وحتى اللحظة التي يتحدث فيها
القوم. أي أنها فترة ممتدة أو حال ممتدة. فعل كان يبدو في هذه الآية وكأنه يصف حال
الماضي وحال الحاضر معًا، كما جاء في الآية في سورة الإسراء. فتبعًا لذلك تشير
كلمة كان إلى أن الصغير كان صبيًّا وما زال صبيًّا في السن الصغيرة.
ننتقل
بعد ذلك لفهم مدلول كلمة طفل، وكلمة صبي، وكلمة مهد.
مدلول كلمة طفل
الجذر
الثنائي لكلمة طفل هو طف أي: ظهر أو خرج بقدر قليل، وعند زيادة حرف اللام تتحول
الكلمة إلى طفل، ومعناها الشيء الصغير في بدايته؛ وهي تعنى اصطلاحًا: المولود
الصغير. وأيضًا كلمة طَفلَ الظلام، كما جاء في قاموس اللغة لابن فارس، معناها:
بدايته، وسُمي طفلًا لقلته ودقته.
كلمة
طفل تعني الشيء الصغير في بدايته، وهو معنى دقيق، وما سمي الطفل إلا لأنه يوافق
هذه التسمية وهذا الوصف. المسميات في كتاب الله، كما أحب دائمًا أن أذكر وأكرر، هي
مسمياتٌ حقيقية تصف المسمى وصفًا دقيقًا محكمًا.
سوف
نرى أن ورود كلمة طفل في كتاب الله ومدلولها يحدد الفترة الزمنية التي يسمى فيها
الصغير طفلًا كما سنرى. كلمة طفل وردت في ثلاثة مواضع من مواضع كتاب الله،
كالتالي:
﴿يا
أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم
مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ
مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ
مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ
لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ
أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى
الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ
وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ (سورة الحج: الآية 5).
﴿وَقُل
لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا
يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ
عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ
آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ
بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ
أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ
أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا
عَلَىٰ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا
يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ
الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (سورة النور: الآية 31).
﴿هُوَ
الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ
يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا
وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُّسَمًّى
وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (سورة غافر: الآية 67).
بالنظر
إلى الآيتين السابقتين نستطيع أن نحدد الفترة الزمنية التي يُطلق فيها على الصغير
مسمى طفل، ففي الآية الأولى بمجرد خروج الجنين يسمى طفلًا، ومن الآية الثانية نجد
أن مسمى طفل يستمر مع الصغير حتى سن التمييز أو حتى بلوغ سن الحُلُم، والحُلُم
معناه لغويًّا التريث، وهو عكس الطيش أي سن التمييز عند الأطفال، كما جاء في
القرآن الكريم:
﴿وَإِذَا
بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا
اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ
آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (سورة النور: الآية 59)
الحُلُم
هنا بمعنى التمييز مع الإدراك وليس سن البلوغ كما يفهمه البعض. التمييز والإدراك
هو عندما يستطيع الطفل تمييز الأشياء، ويستطيع التفريق بين الصواب والخطأ،
وتقريبًا هذه المرحلة تأتي بعد السادسة أو السابعة كما يقول العلم، حيث تصبح قدرته
على فهم ما حوله أكثر بكثير من ذي قبل. القول أن سن الحلم هو سن البلوغ ليس
منطقيًّا بالمرة؛ ليس من المعقول أن ينتظر الطفل حتى سن الثانية عشر أو الثالثة
عشر أو حتى بعد ذلك ليستأذن. هو لا شك يكون قادرًا على التمييز قبل هذه السن، ووجب
عليه الاستئذان عند دخول الأماكن المغلقة.
لم
يذكر ربنا أن المسيح تكلَّم طفلًا ولكن ذكر أنه كان صبيًّا، فلا بد أن الصبي يقصد
به مرحلة عمرية مختلفة، وحالًا غير حال الطفولة.
ما
معنى كلمة صبى لغةً؟ وكيف وردت في القرآن الكريم؟
مدلول كلمة صبي
الجذر الثنائي لكلمة صبي وهي صب تعني خرج من حالة إلى حالة، وبسبب نقص
المعلومات حول كلمة صبي نفسها فسوف نحاول فهم الكلمات التى جذرها الثنائي الصاد
والباء، والحرف الثالث مختلف. صبأ كما في لسان العرب لابن منظور أي: خرج من دين
إلى دين.
صَبح:
هي فترة الشفق الأحمر، أو الفترة الانتقالية بين الليل والنهار.
صبر:
هي أيضًا فاصل بين عسر، وما يأتي بعدها من يسر.
صبغ:
تعني مرحلة انتقالية بين لون ولون.
صبن:
حوَّل من شيء إلى شيء آخر، كقول صبن الساقي الكأس أي: حولها من شخص لشخص.
اعتمادًا
على جذر الكلمة وقياس كلمة صبي كما تقدم، نجد أن مدلول كلمة صبي يعني التحول من
مرحلة إلى مرحلة، أي أنها مرحلة انتقالية بين مرحلتين، وهنا المقصود بالمرحلتين؛
مرحلة الطفولة والمرحلة التي تلي الصبا، وهي لا شك أنها مرحلة الغلام، وهي مرحلة
المراهقة. معنى شابٌ غلم أي: شَدِيدُ الشَّهْوَةِ الْجِنْسِيَّةِ؛ وجذر كلمة غلم
له أصلٌ واحد هو حداثة وطيش، وهو ما يتوافق مع بداية مرحلة المراهقة فعليًّا.
مدلول
كلمة صبي يصف تحولًا من حالة إلى حالة، وبما أننا أثبتنا أن مرحلة الطفولة هي
المرحلة الأولى التي يمر بها الرضيع، فهنا تصبح مرحلة الصبا على أقل تقدير هي
المرحلة التي تلي مرحلة الطفولة. وردت كلمة صبي في كتاب الله مرتان هما:
﴿يَا
يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾ (سورة مريم:
الآية 12).
﴿فَأَشَارَتْ
إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا﴾ (سورة مريم:
الآية 29).
تشير
الآية الأولى إلى مرحلة عمرية متقدمة، ليست على أية حال مرحلة الطفولة. أصل كلمة
الحكم، كما في قاموس اللغة، هو المنع، وإن كان الحكم يعني حسن التصرف، فهذا لا
ينطبق أبدًا مع مرحلة الطفولة. مرحلة الطفولة كما رأينا هي مرحلة عدم التمييز
بالأساس.
التعبير
القرآني الذي استخدم كلمة صبي يشير إلى أن الصغير قادر على التمييز، لذلك إضافة
الحكم للصغير في هذه المرحلة، هو زيادة في التدبير، وحسن التصرف.
بناء
على مدلول كلمة صبي في الآية الكريمة، وجذر كلمة صبي اللغوي؛ فإن الآية الثانية
تحمل نفس المدلول، وهو مرحلة ما بعد مرحلة الطفولة، التي يكون فيها الصغير قادرًا
على التمييز.
الكلمات
في كتاب الله دقيقة وما دام أنَّ كلمة طفل كلمة قرآنية، وكما وضحنا مدلولها ومداها
الزمني، فلا يمكن أن تكون مرادفة لكلمة صبي.
مدلول كلمة مهد
كلمة
مَهد تعني: سوَّى وأصلح، وفي قاموس اللغة نجد أن مادة الميم والهاء والدال، تدل
على توطئة وتسهيل الشيء. أما في كتاب الله نجد أن كلمة "مهد" جاءت بمعنى
فترة زمنية في ثلاث آيات هي :
﴿وَيُكَلِّمُ
النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ (سورة آل عمران: الآية
46).
كلمة
كهل وجذرها الكاف والهاء واللام، لها أصل واحد هو القوة في الشيء. المقصود بكهل
هنا فترة الكهولة، أي: فترة القوة والنشاط، وليست كما يظن الكثيرون أنها فترة تقدم
العمر أو مرحلة الشيخوخة، ومن ذلك القول، حمل على كاهله أي: أخذ الأمر بقوة وشدة.
في
تفسير النسفي عن هذه الآية يقول: المهد هو ما يمهد للصبي من مضجعه، سمي بالمصدر وكهلًا عطف
عليه، أي: ويكلم الناس طفلًا وكهلًا، أي: يكلم الناس في هاتين الحالتين، كلام
الأنبياء من غير تفاوت بين حال الطفولة وحال الكهولة".
تفسير
ابن عطية يقول: كهلًا معطوفة على في المهد" و"كهلًا" حال معطوفة
على قوله:في المهد".
أما
تفسير أبي السعود فقرر نفس المعنى "يكلمهم حال كونه طفلًا وكهلًا، كلام
الأنبياء من غير تفاوت"، وجاء في تفسير الألوسي في تفسير في المهد
وكهلًا" والمراد يكلمهم حال كونه طفلًا وكهلًا" انتهى الاستشهاد
بالتفاسير.
من هنا
يتضح أن المقصود هنا المرحلة الزمنية التي يُرْعَى الطفل فيها؛ إذ لا يقوى على
القيام بشئون نفسه، ودائمًا ما يحتاج إلى رعاية وتسهيل أموره وتوطينها من قبل
آخرين. كأن الآية الكريمة تتحدث -لو جاز لنا التعبير - عن فترة الحضانة ( المهد)
وفترة عزم الشباب (الكهولة).
الآية
الثانية: ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي
عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ
النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ
بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ
وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ
بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ (سورة المائدة: الآية 110).
كلمة
المهد في الآية الكريمة تحمل نفس المعنى السابق، حيث الاشتراك في المعنى والعطف
على (كهلًا)، والمقصود فترة الحضانة، وفترة الكهولة.
الآية
الثالثة التي نحن بصددها لا تخرج عن هذا المعنى، وهي فترة الحضانة التي يحتاج فيها
الصغير لرعاية وتدريب، قبل أن يصل سن البلوغ وينفرد بتصرفاته. القول إن المهد هو
سرير أو فراش الصغير هو فهم ظاهري وسطحي، لم يراع مدلول الكلمة في كتاب الله،
وبطبيعة الحال لا يستقيم أن يكون صبيًّا أي: في سن الصبا، وفي نفس الوقت في سرير
وفراش المهد.
﴿فَأَشَارَتْ
إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا﴾ (سورة مريم:
الآية 29).
لقد
أنكر القوم أن يتكلموا في مثل هذا الأمر مع صغير لا يقوم بشئون نفسه، فهل سيتكلم
عن غيره سنعود إلى هذه الآية الكريمة بعد قليل بتفصيل أكثر.
جاءت
أيضًا كلمة مهد لها مدلول مكاني في آيتين في كتاب الله وهي كالتالي:
﴿الَّذِي
جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّىٰ﴾ (سورة طه:
الآية 53).
﴿الَّذِي
جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَّعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ﴾ (سورة الزخرف: الآية 10).
لفظ
المهد هنا يصف الأرض كمكان معد ومهيئ ومناسب للحياة. على ذلك فإن كلمة مهد تصف
حالة عامة من صفاتها الإعداد والتهيئة لاستقبال شيء آخر؛ فإذا وصف المهد وقتًا فهو
وقت الإعداد والتهيئة، وإذا وصف المهد مكانًا فهو المعد والمهيئ. في حالة نبي الله
عيسى: المهد يصف زمانًا ولا يصف مكانًا أي: فترة الإعداد والتهيئة أو كما ذكرنا
فترة الحضانة؛ لأنها جاءت في موضع معطوفة على كهل، وهو حال الشباب.
بعد
هذا التفصيل اللغوي للكلمات التي تحتوي عليها الآية الكريمة، وتوضيح معنى طفل
ومعنى صبي، والمقصود بلفظ مهد؛ نجد أنه ليس هناك دليلٌ واضحٌ من القرآن الكريم على
أن نبي الله عيسى تحدث رضيعًا.
على
الجانب الآخر: لا يوجد دليل على أنَّ من نادى مريم من تحتها هو عيسى عليه السلام،
ولقد اختلف المفسرون في ذلك، والأصح أنه لم يكن عيسى مطلقًا بدلالة الآيات ذاتها.
﴿فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا (26)﴾ (سورة مريم: الآيات 24-26 ).
سياق الآيات يبيِّن أن من نادها من تحتها هو رسول ربها الذي بشرها في البداية؛ لأنها في حالةٍ أضعف ما تكون، وتحتاج إلى الاطمئنان لا إلى الجزع والخوف في حالة نادها ولدها، وهي تعلم أن الرضيع لا يتكلم ولا ينطق، وقد ذهب إلى هذا القول كثير من المفسرين كما أفردنا آنفاً.
يحق
لنا هنا أن نسأل بنفس منطق الشيخ متولي الشعراوي؛ إذا كانت مريم تحمل ابنها
رضيعاً، فمن أين عرفت أنه سيتكلم عندما أشارت إليه؟ ليس هناك أي إشارة في كتاب
الله على أن الله أوحى لها أن تشير إليه، أو أنه سيتكلم، أو أنها أُمرت إذا خاطبها
أحدٌ أن تشير إليه ليتكلم هو؛ وإنما كان الأمر أن تقول لن أكلم اليوم إنسيًّا، فما
أشارت إليه إلا لأنها تعلم منه الفصاحة والقدرة على الرد. عندما التقت مريم قومها
لم تقل كما أمرها ربها لن أكلم اليوم إنسيًّا، بل أشارت إلى صغيرها مما يعزز فرضية
أن هذا المشهد لم يكن بعد الميلاد مباشرة، كما يقول المفسرون، بل هو مشهد آخر
تماماً.
هنا
أيضًا تبرز إشكالية أخرى، فعندما أشارت إليه لم يقل الناس وقتها كيف يتكلم من كان
في المهد صبيًّا، وهذا هو الأنسب لو أنهم ينكرون قدرته على الكلام، وإنما قالوا كيف
نُكلم نحن من كان في المهد صبيًّا، فهُم لم ينفوا عنه القدرة على النطق، ولكن
اعترضوا على كونهم مطالبين بالكلام مع صبي؛ لا يعي بزعمهم التكلم في مثل هذه
الأمور. ولو أن السيدة مريم عندما سألوها فأشارت إلى الرضيع كانوا ظنوا أن الأمر
استهزاء، كما حدث مع قوم نبي الله موسى، عندما طلب منهم أن يذبحوا بقرة قالوا
أتتخذنا هزوًا، فهم لم يقولوا لمريم أتتخذيننا هزوًا، ولكنَّ غاية الأمر استنكروا
أن يتكلموا في مثل هذا الأمر الذي يتطلب إدراكًا وفهمًا، وبالعادة لا يتوافر هذا
الإدراك لصبي.
يتضح
لنا من استقراء واستنطاق الكلمات وبطريقة مباشرة أن عيسى عليه السلام، إنما كلم
الناس في مرحلة المهد التي هي مرحلة الطفولة، ومرحلة الحضانة، كلماته البليغة التي
تدل على الحكمة، والتي غالبًا لا يقدر على مثلها من هو في عمره، كانت وحيًّا
وإلهامًا من الله، وهذه هي النعمة التي أخبر عنها ربنا، ولم يقل عنها أنها آية
كعادة القرآن، في الإخبار عن الأشياء العجيبة في وقتها.
هناك
فرقٌ بين تكلم ويقول وينطق ويتحدث، ولا يمكن أن تؤدي جميع الألفاظ نفس المعنى. في
السطور القليلة الباقية سنحاول إلقاء الضوء على فعل كلَّم، والفرق بين يكلِّم
ويحدث باختصار حتى يتضح المراد.
مدلول لفظ كلَّم
لو
نظرنا في فعل يُكلم وتُكلم في الآيتين التاليتين، سنجد أنها أفعال مضارعة توحي
بالاستمرار والمتابعة:
﴿وَيُكَلِّمُ
النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ (سورة آل عمران: الآية
46)
﴿إِذْ
قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ
وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ
وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ
وَالْإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي
فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ
وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ
بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ (سورة المائدة: الآية
110).
لقد
كان الكلام مستمرًّا ومتتابعًا، ولم يكن لمرة واحدة وانتهى أمرها.
في
السن الصغيرة يمكن للصغير أن يقول شيئًا أو يحدث بأمر بقدر الحصيلة اللغوية التي
يمتلكها، ولكن الكلام بمعناه كما سوف يأتى بيانه أمرٌ صعبٌ للغاية على الصغير. من
هنا وجب علينا التفريق بين مسألة الكلام والتكلم، والنطق أو حتى الحديث؛ فالكلام
إنما هو جُملٌ وعباراتٌ مفهومة ومقصودة حول أمر معين، ولا بد للمتكلم أن يكون
مدركًا للأمر الذي يتكلم فيه، ومصدر الكلام عمليات منطقية وقدارت راقية في العقل.
حتى إنه يقال للإنسان البليغ إنسانٌ متكلمٌ،
كناية عن بلاغته وفصاحته وقدرته على الإتيان بالمعنى.
مادةُ
كلم له أصل: وهو نطق كلام مفهوم؛ فغاية الإعجاز أن يتحدث الصغير بكلام مفهوم
ومقصود، كما تحدث نبي الله عيسى للناس، وكما حكى عنه القرآن.
﴿َقَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)﴾ (سورة مريم: الآيات 30- 33).
هل
هناك أبلغ من كلمات كهذه ينطق بها الصبي؛ فكل كلمة تحمل معرفة لا يمكن لصبي في سن
صغير الإتيان بها، إلا إذا كانت وحيًّا أو إلهامًا في شكل نعمة من الله.
لو
استطعنا على سبيل المثال ترتيب حالات صوتية رئيسية على حسب مدلولها في كتاب الله
فسنجد أن أول حالة هي حالة النطق؛ والنطق هو أصوات لها مدلولات معينة. كل صوت له
دلاله معينة هو في الحقيقة نطق، ويمكن إدراك هذه الحقيقة من خلال التعبير القرآني
الذي ذكر أن نبي الله سليمان تعلم منطق الطير. منطق الطير وليس كلام الطير؛ فما
تعلمه نبي الله سليمان هو فهم مدلول الأصوات لدى الطير.
الحالة
الثانية: يمكن أن نسميها حالة القول. في هذه الحالة تتشكل الكلمات جملًا وعبارت
بغرض التعبير عن حالة معينة. لا يشترط في القول البلاغة أو القصد، والقول بالأساس
نابع من حاجة الإنسان للتعبير عن فكرته التي يرغب في إيصالها إلى محيطه. يختلف
القول باختلاف القائل، فكل كلام هو في الحقيقة قول، ولكن ليس كل قول يعد كلامًا.
الحالة
الثالثة: هي مرحلة الحديث أو التحدث، هذه الحالة هي حالة خاصة تصف نقل أحداث معينة
عن طريق التعبير اللفظي أو نقل خبر ما. التحدث هو القدرة على وصف حالة معينة
ونقلها للمستمعين، ليس شرطًا أن يكون الوصف بليغاً. فالوصف يعتمد على الناقل وعلى
حصيلته اللغوية. من هنا نستطيع القول إن الحديث إما أن يكون نقلًا ونسخًا لما
يقوله الغير، أو وصفًا لحدث ما. كلما كان المتحدث متمكنًا كان الحديثُ معبرًا
تعبيرًا أقرب إلى الحقيقة، والعكس بالعكس، فكلما كان المتحدث ضحلَ المعرفة
والثقافة، كان النقل مشتتًا وغير معبر. وردت كلمة حديث في القرآن الكريم 23 مرة،
وحتى لا أطيل السرد سأسردُ مثالين فقط لبيان الفكرة:
﴿وَهَلْ
أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى﴾ (سورة طه: الآية 9).
﴿هَلْ
أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ﴾ (سورة الذاريات:
الآية 24).
جذر
كلمة حديث هو حدث، ولها أصل واحد، وهو كون الشيء، وكون الشيء يعني حدوثه ووجوده،
وهو ما يمكن أن نعبر عنها بالحدث. نقل هذا الحدث كما يتضح من الآيات الكريمة هو ما
يسمى الحديث. مدلول كلمة حديث تعبر عن نقل مجموعة من القصص والأخبار أو الأحداث،
وإذا كانت بلاغة الحديث موقوفة على المحدث أو الذي يقص، فمن الطبيعي أن يكون كتاب
الله أحسن الحديث؛ لأن الذي يقص القصص، وينقل الخبر هو الله سبحانه وتعالى.
﴿اللَّهُ
نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ
مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ
وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ
يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَاد﴾ (سورة الزمر: الآية 23).
﴿اللّهُ
لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ
فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا﴾ (سورة النساء: الآية 87).
لا
يمكن أن يسمى الحديث كلامًا؛ لأن الحديث نقل صورة حدثت بالفعل بينما الكلام أقرب
لعملية الإبداع أو الابتكار، إذ يسطيع الإنسان من خلال الكلام التعبير عن أشياء
تعبيرًا بليغًا مقصودًا ومفهومًا نابعًا من ذاته.
المرحلة
الأخيرة: هي مرحلة الكلام، وهي المرحلة التي يكون فيها القول بليغًا ومفهومًا
وبغرض معين، وغالبًا ما تأتى هذه المرحلة بعد قدرٍ من المعرفة والعلم وتطور عقلي
معين، كما ذكرنا في بداية الفصل. المتكلم لديه قدرة على الاستدلال وإجراء العمليات
المنطقية. ولو تتبعنا جذر كلم في القرآن لأدركنا المعنى المراد.
ورد
فعل كلم 25 مرة في كتاب الله، يعبر عن فعلٍ بليغٍ مفهوم، كالتالي:
﴿تِلْكَ
الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ
وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ
وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ
مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَٰكِنِ اخْتَلَفُوا
فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا
اقْتَتَلُوا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيد﴾ (سورة البقرة: الآية 253)
ورد
لفظ كلم في الآية الكريمة منسوبًا إلى الله، وسنأتي على قصة كلام نبي الله موسى
بالتفصيل في الجزء الثالث من كتاب تلك الأسباب من خلال فهم عملية التطور البشري، وما
هو المقصود بكلم الله موسى تكليمًا. على كل حال الكلام هنا يعني الوصف الحقيقي
للأشياء، وليس هناك كلام أفضل ولا أبلغ من كلام الله سبحانه وتعالى.
﴿وَلَوْ
أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ
أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَىٰ بَل لِّلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ
يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا
وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ
تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ
لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ (سورة الرعد: الآية 31)
هنا
أيضا في الآية الكريمة الكلام نسب إلى القرآن، ولسنا في حاجة إلى أن نقول إان
ألفاظ القرآن الكريم هي الوصف الحقيقي والمطلق للأشياء.
﴿وَقَالَ
الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ
كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ
قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ (سورة البقرة: الآية
118).
﴿إِنَّ
الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ
ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ
وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (سورة البقرة: الآية 174). الآيات السابقة نسب فيها الكلام إلى
سبحانه وتعالى، وهو ما يؤيد وجهة نظرنا بأن الكلام أرقى مراحل القول على الإطلاق
وأبلغها وأكلمها.
الآيات
التالية التي تذكر الكلام منسوبًا لشخص أو دابة، كما حدث مع دابة الأرض، تعني ذلك
الكلام المقصود المفهوم البليغ
﴿قَالَ
رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ
أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ
وَالْإِبْكَارِ﴾ (سورة آل عمران: الآية 41).
﴿وَيُكَلِّمُ
النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ (سورة آل عمران: الآية
46)
﴿إِنَّ
الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا
أُولَٰئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا
يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ﴾ (سورة آل عمران: الآية 77).
﴿وَرُسُلًا
قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ
وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا﴾
(سورة النساء: الآية 164).
﴿إِذْ
قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ
وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ
وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ
وَالْإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي
فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ
وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ
بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِين﴾ (سورة المائدة: الآية 110).
﴿وَلَوْ
أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَىٰ
وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا
أَن يَشَاءَ اللَّهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ﴾ (سورة الانعام: الآية
111).
تذكر
الآية الكريمة تعبير كلمهم الموتى: أي أن الموتى في كامل وعيهم يصدرون تعبيرات
مفهمومة وقوية وبليغة، تصف الأشياء وصفًا دقيقًا، وهذا يعتبر آية لأولي الأبصارإذ الطبيعي
أن الموتى لا يتكلمون حتى وإن تقدم العلم يوما واستطاع استخراج بعض الأصوات من
الموتى فهذه الأصوات لا يمكن اعتبارها كلام، إذ الكلام لابد أن يكون صادراً عن وعي
كامل. منذ فترة
وجيزة تمكن فريق بحثي من قسم الهندسة
الوراثية وقسم الآثار بجامعة لندن ببريطانيا، من عمل محاكاة لصوت مومياء مصرية
عاشت قبل 3 آلاف سنة. بالرغم أن هذا الإنجاز هو مجرد محاكاة للصوت عن طريق تصميم
دقيق لتصور الأحبال الصوتية لهذه المومياء، إلا أنه لا يمكن اعتبار ذلك الحدث
قولًا أو صوتًا. لو فرضنا أن العلم الحديث استطاع بالفعل استخراج الصوت من شخص
ميت، فإن هذا الصوت حتى لو كان مفهومًا لا يعد كلامًا أبداً. الكلام كما ذكرنا يحتاج إلى وعي تام، وإدراك بحقيقة
الأشياء، وهذا ما لا يتوافر للميت.
﴿وَلَمَّا
جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ
إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ
مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ
دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ
إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (سورة الأعراف: الآية 143).
﴿وَاتَّخَذَ
قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ
أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ
وَكَانُوا ظَالِمِينَ﴾ (سورة الأعراف: الآية 148).
﴿يَوْمَ
يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾
(سورة هود: الآية 105).
﴿وَقَالَ
الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ
إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ﴾ (سورة يوسف: الآية 54).
﴿قَالَ
رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ
سَوِيًّا﴾ (سورة مريم: الآية 10).
﴿فَكُلِي
وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي
إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا﴾
(سورة مريم: الآية 26).
﴿فَأَشَارَتْ
إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا﴾ (سورة مريم:
الآية 29).
﴿قَالَ
اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾ (سورة المؤمنون: الآية 108).
﴿وَلَوْلَا
إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَٰذَا
سُبْحَانَكَ هَٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ﴾ (سورة النور: الآية 16).
﴿وَإِذَا
وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ
تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ﴾ (سورة النمل:
الآية 82).
﴿أَمْ
أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ
يُشْرِكُونَ﴾ (سورة الروم: الآية 35).
﴿الْيَوْمَ
نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم
بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (سورة يس: الآية 65).
﴿وَمَا
كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ
أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ
حَكِيمٌ﴾ (سورة الشورى: الآية 51).
﴿يَوْمَ
يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ
لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَقَالَ صَوَابًا﴾ (سورة النبأ: الآية 38).
وردت
لفظ كلمة أو كلمت بالتاء المفتوحة 29 مرة، تشير إلى اتفاق أو ميثاق معقود، كما أن
لفظة كلمات وردت اثنتي عشرة مرة كلها منسوبة لله سبحانه وتعالى؛ ولفظة كَلم وردت
أربع مرات. وبقليل من التدبر سيتأكد لنا أن لفظ يكلم، كما أوردنا، يعني الألفاظ
المرتبة والمفهومة والبليغة والمقصودة، الناتجة عن وعي كامل، وإدراك حقيقة
الأشياء.
نعود
للآية الكريمة محل دراستنا، وهي الخاصة بكلام نبي الله عيسى ومشهد سؤال قوم السيدة
مريم لها وإشارتها إلى ابنها ليتكلم هو، نجد أن الطرف الثاني في الحادثة هم قوم
السيدة مريم وليس أهلها، هناك فرق بين القوم والأهل؛ فالأهل هم الخاصة:
﴿وَنَادَىٰ
نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ
وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ﴾ (سورة هود: الآية 45). القوم
هم أشمل وأعم من كلمة الأهل. بينما نجد أن الأهل ملتصقون بالشخص، ويرجح أن يكونوا
على معرفة لصيقة بالشخص، نجد أن القوم لا تنطبق عليهم هذه الحالة، مما يؤيد أنهم
عرفوا بعد فترة، وليس بمجرد الولادة.
لفظ
تحمله في قول الله تعالى:
﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ
قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا﴾ (سورة مريم :الآية 27).
لا
يحمل لفظ تحمل أي إشكال من حيث المعنى، فما المانع أن تكون حملته، وهي عادة كثير
من النساء أن يحملن أطفالهن وهم في سن متأخرة إذا شعر الطفل بالتعب، أو أنها حملته
على دابة ما، مثل الحمار أو الحصان كما جاء في كتاب الله:
﴿وَلَا
عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ
مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ
الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ﴾ (سورة التوبة: الآية 92).
لو
رتبنا الألفاظ التي وردت في الآية الكريمة وتتبعناها قرآنيًّا، واستنطقنا الكلمات
لغويًّا لاتضحت الحقيقة جليًّا أن نبي الله عيسى عليه السلام، لم يتكلم وهو طفل
رضيع، وإنما تكلم بكلام بليغ في فترة الصغر أو فترة الصبا، بكلام يعجز من في مثل
سنه أن يتكلم به، وهذا في حد ذاته نعمة وفضل من الله، وليس كما يعتقد البعض أن نبي
الله عيسى تكلم رضيعًا بشكل خارق للعادة.
أتعجَّبُ كل العجب ممن يُصِرُّ على أن نبي الله
عيسى تكلم رضيعًا، اعتمادًا على كلمة المهد كدليل موثوق مع أننا بيَّنا مدلولها،
ولا يلقي بالًا لكلمة صبي والفرق بينها وبين طفل، وفعل كان والفرق بين كلم ونطق أو
الاستدلالات الأخرى المنطقية، التي تشير جميعها إلى أن كلام نبي الله كان في سن
مبكرة ولم يكن رضيعًا. من سلامة المنطق القدرة على وزن الأدلة وترجيح كفة الأدلة
الأكثر منطقية وليس التشبث بقول ما بزعم أن هناك إجماع على هذا القول. بالطبع
المسألة مطروحة للنقاش، وليست قطعًا أو جزمًا بحقيقة لا تقبل النقاش.
لقد كان الحافز لتسجيل هذا الفصل، وهو بالفعل
يعارض كثيرًا من الأقوال المستقرة في هذه المسألة، هو إثبات عدم التحيز المعرفي
بأي شكل من الأشكال. لقد كان الهدف من هذا البحث هو محاولة فهم كيف يمكن للرضيع أن
يتكلم، وكيف نفهم هذا الأمر الخارق للعادة، كما جرى به التراث من خلال العلم
والأقدار والأسباب التي خلق الله بها كل شيء. عند تطبيق المنهج على هذه الآية
الكريمة ظهر لنا أن الكلمات لا تسير في اتجاه أن الرضيع تكلم بعد الولادة مباشرة،
وعند التعمق والغوص أكثر فأكثر، اكتشفنا أن كلام نبي الله عيسى لم يكن رضيعًا
وإنما كان في سن مبكرة في حدود السبع أو الثماني سنوات تزيد أو تنقص قليلًا كما
بيَّنا. لقد أثبت هذا الفصل لنا قبل القارئ أننا نتبع منهجًا محددًا، ولا نتبع
فكرة مسبقة، ونحاول تطويع الكلمات والألفاظ عليها.
يتبقى
لنا من خلال هذا الفصل تتبع حالة الكلام في تاريخ البشرية، وقد كان مقررًا لهذه
الجزئية أن تكون ضمن الجزء الثالث من كتاب تلك الأسباب لتكون مفهومة بشكل جيد،
ولكن بسبب مناسبة الكلام هنا سوف نضع هذه الجزئية كزيادة إيضاح لمفهوم الكلام
ومدلوله، ولماذا يختلف عن مجرد القول والنطق والحديث.
في
الجزء الثالث من الكتاب تتبعنا التطور بصفة عامة، والتطور المعرفي للبشرية بصفة
خاصة، وكيف أن البشرية انتقلت من مرحلة بدائية إلى مرحلة متطورة، ومتقدمة
بالتدريج، وهذا الفرض فُصِّل كاملًا من خلال الللفظ القرآني، ومن خلال تتبع الآيات
القرآنية. من الملاحظات المعتبرة كانت تتبع لفظ الكلام وكيفية ظهور الكلام عند
البشرية، والذي يدل على رقي وتطور عقلي ملحوظ. سنتعرض في الفصل التالي للكلام
وظهوره في البشرية حتى يزداد فهمنا فهمًا لحادثة نبي الله عيسى ومفهوم الكلام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق