Translate

الفصل الثامن - ويل للمصلين

الفصل  الثامن

ويل للمصلين

"هل رأيت أخبث من هكذا شخص لا يعمل وفق القوانين ويضيع حقوق الناس ويصُعب كل سهل ولا يعمل بشكل صحيح إلا تحت ضغط، وليس لديه الحد الأدنى من الأخلاق؛ هذه النوعية من البشر استحقت بجدارة التوعد بالويل بسبب ما يسببونه من ألم، وحنق في المجتمع، ولما ينشرونه من إحباط ويأس بين أفراده".

 

سورة الماعون التي تصف بكل دقة حالة منتشرة، وتحذر منها وتتوعد مانعي الماعون بالويل، لا تكاد تُذكر إلا في حالة الساهي عن الصلاة، ويكاد الناس لا يعرفون عن هذه السورة العظيمة إلا ويل للمصلين، على اعتبار أن المقصود هو الصلاة الشعائرية. السورة العظيمة وتأويلها أبعد ما تكون عن ذلك. تبعًا للمنهج الذي نستخدمه في فهم اللفظ القرآني، والذي يقرر أن الألفاظ تصف حالة معينة، ويمكن فهمها من خلال السياق الذي ذُكرت فيه. سنحاول فهم سورة الماعون وألفاظها من خلال كتاب الله، لنكتشف عظمة هذا الكتاب الذي أنزله الله هدى للناس ودستورًا ينظم حياتهم وتصرفاتهم.

﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)﴾ (سورة الماعون).

في البداية دعونا نقرر حقيقة ننطلق منها، وهي أن التفسيرات التقليدية تقول إن الويل الذي أعده الله للساهين عن الصلاة، فالصلاة المقصودة هي الصلاة الشعائرية بفروضها المعروفة، والتي افترضها الله على عباده المؤمنين!

كيف يكون المقصود بالمصلين، عباد الله المؤمنين، وكيف يكون المقصود بالصلاة الصلاة الشعائرية، والسورة تدور حول ذلك الشخص الذي يكذب بالدين؟ حسب التفسيرات التقليدية؛ الدين يعني دين الله ونواهيه وأوامره؟ إذا كان الخطاب المقصود من التوجيه الرباني يدور حول ذلك الشخص الذي يكذب بالدين؛ فمن الطبيعي أن هذا الشخص غير مكلف بالصلاة من الأساس، فكيف يكون المكذب بالدين مخاطبًا بالصلاة ؟. الصلاة الشعائرية كانت على المؤمنين وليست على المكذبين بالدين كما ينص على ذلك كتاب الله.

 ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ ۚ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ۚ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا﴾ ( سورة النساء : آية 103).

من الممكن الهروب من هذه الإشكالية على اعتبار أن الآيات الأولى منفصلة عن آية المصلين، وهذه كارثة أخرى، إذ جعلت آيات القرآن جزرًا معزولة تنتقل من حالة إلى حالة دون أي رابط أو علاقة بينهما؛ وياليت من يتعجل ويتعصب بالحكم على شيء لا يدري عنه شيئًا، يتريث ويقرأ ويفسح المجال للفكرة و يمنح نفسه فرصة لتقييم معلوماته.

السورة الكريمة تشكل وحدة واحدة وتتحدث عن موضوع واحد من الموضوعات الأساسية.  تدور السورة الكريمة حول ذلك الإنسان الخبيث الذي يقف عقبة كؤود في سبيل تحقيق مصالح الناس. كل إنسان يصعب السهل ويعقد الحلول ولايراعي ولا يفهم طبيعة عمله التي هي تسهيل الأمور لا تعقيدها هو المخاطب بهذه السورة العظيمة. إنما يُستعمل الناس في الوظائف لغرض قضاء حوائج الناس، فعندما تنقلب المهمة الأساسية للإنسان من النقيض إلى النقيض، ويصبح عقبة وصخرة بدلًا من كونه  نهرًا يجري بالخير؛ هنا يستحق التوعد بالويل؛ لأنه يعمل ضد طبيعة الحياة وضد مهمته بالأساس.

تبدأ السورة الكريمة بقول الله تعالى أأريتالذي يكذب بالدين؛ والدين هو مجموعة تعليمات وقوانين يعمل من خلالها الإنسان، أو قل إن شئت المنظومة التي تحكم تصرفات وعلاقات الإنسان بمن حوله. إذا نُسب الدين لله فالمقصود هو مجموعة الأوامر والنواهي والتعليمات التي أصدرها الله تعالى لعباده ووجب عليهم الالتزام بها والعمل من خلالها.

﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ ( سورة يونس : الآية 22).

أما إذا نُسب الدين لغير الله فالمقصود هو مجموعة الأوامر والتعليمات التي وضعها المنسوب إليه، والتي يجب أن يعمل الداخلون تحت ولايته وفق هذه التعليمات، ومثال ذلك دين الملك الذي ذكره الله في سورة يوسف.

﴿فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ ( سورة يوسف : آية 76).

المقصود هنا هو القانون الذي وضعه الملك لتسيير حالة المجتمع، والتي يجب على الناس العاملين خلال نطاق هذه المملكة وتحت سلطانه الالتزام بهذا الدين( القانون) والعمل من خلاله، ومخالفته توجب العقاب.

إذن لفظ الدين هو لفظ يصف مجموعة من التعليمات والالتزامات بصفة عامة، ولكي نفهم ما هي هذه التعليمات وهذه الالتزامات، وعن أي شيء تدور، وهل المقصود هو دين الله، أم دين الملك، أم دين المجتمع، لا بد من فهم السياق، وعن ماذا يدور الخطاب. ما سيحل لغز هذه الألفاظ ويوضح المقصود بالحالة التي تصفها هو فهم كلمة الماعون، والتي سميت السورة باسمها. كل آية من آيات هذه السورة العظيمة تعطي لمحة من الصورة الكلية، وستكتمل الصورة بالوصول إلى الآية الأخيرة التي تتحدث عن الماعون.

الآية الأولى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ﴾

الذين يكذب بالدين هنا تعني الذي يكذب ولا يتعامل من خلال المنظومة التي تسيِّر المجتمع، سواء هذه المنظومة كانت مستمدة من كتاب الله أو من خلال قوانين وضعها المجتمع لتسيير الحياة وقضاء الحاجات(قانون الذي ينظم حركة المجتمع). التعجب هنا من ذلك الشخص الذي يشذ عن المنظومة التي تنظم حركة المجتمع وينفرد عنها، ويعمل وفق رؤيته الشخصية كما سنرى. الآية الكريمة تحمل توجيهًا عامًّا للإنسان بأنه إذا كان يعمل داخل منظمة معينة فلا يتوجب عليه الشذوذ عنها لأي سبب، سواء كان هذا السبب قناعته الشخصية أو اعتقداته النفسية؛ العمل من خلال المنظومة هو الأولى من العمل منفردًا تحت أي ظرف من الظروف.

الآية الثانية: ﴿فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ﴾

 تشير الآية الكريمة إلى صفة هامة من صفات ذلك الذي يكذب بالدين، أو الذي لا يعمل من خلال المنظومة والقوانين التي تنظم حركة المجتمع، إذ إنه يدع اليتيم. أصل كلمة يدع هو دع، ومعناها دفع واضطراب، ويمكن فهم كلمة دع من خلال الآية القرآنية التي تتحدث عن المجرمين الذين سيُدَعّون إلى نار جهنم

﴿َيوْمَ يُدَعُّونَ إِلَىٰ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا﴾ (سورة الطور: الآية 13)

لفظ "دعا" كما يقول المفسرون هو الدفع مع الإرهاق أو الإزعاج، وعلى ذلك يصبح دع اليتيم أي دفعه بشكل مهين ، ولكن من هو اليتيم؟ لفظ يتيم تصف حالة من الانفراد، الذي يصبح بدوره مدعاة للضعف بسبب عدم وجود معين أو قوة يستند إليها؛ وما سمي الذي مات أحد أبويه باليتيم إلا بسبب تطابق حالته مع الحالة التي تصفها كلمة اليتيم، وهي الانفراد والضعف بسبب عدم وجود معين.

الآيات الكريمة تتحدث عن الشخص المسئول عن مهام معينة، ويقوم بهذه المهام من خلال منظومة قوانين محددة (الموظف أو المسئول) ولكن يختار أن يخرج عنها ويعمل بهواه وفق رؤيته. التعجب القرآني موجه لهذه الشخصية، التي يصفها المشهد القرآني باقتدار، فمن أبرز صفات هذه الشخصية نهر ودفع من ليس له سند أو معيل، أو لا يملك القوة في نظر هذا المسئول.

الآية الثالثة: ﴿وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾

الآية الكريمة تتحدث عن الصفة الثانية التي تُميز هذه الشخصية الخبيثة، فهو لا يحض على طعام المسكين. الحض على الشيء تعني البعث على شيء أو التحفيز أو التشجيع. في هذه الآية الكريمة التي تبدو سهلة الفهم كلمتان، يبدو أن مدلولهما ليس كما نعتقد ونتوارثه، ويحملان حالة خاصة نستطيع من خلال كتاب الله فهمها. الكلمتان هما كلمة الطعام، وكلمة مسكين، وقبل أن نحاول فهم كلمة الطعام سنعرج على كلمة مسكين لفهم الحالة التي تصفها.

أصل كلمة مسكين هو سكن ولها أصل واحد وهو خلاف الحركة والاضطراب أي تصف حالة السكون. والمسكين هو الذي ينطبق عليه وصف هذه الحالة سواء كان السكون سكونًا ماديًّا، مثل إصابته بالعجز أو الإعاقة أو سكون نفسي مثل المصاب بالتوحد.

هناك إشارة مباشرة إلى ذلك الشخص المصاب بالتوحد في قول الله تعالى مسكينًا ذا متربة في سورة البلد ﴿َوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ﴾ (سورة البلد: آية 16).

أصل كلمة متربة هو ترب، وكما في قاموس اللغة، يعني تساوي شيئين، لو نظرنا إلى المسكين وحالة السكون التي يمثلها، ثم أضف إلى ذلك تساوي الأشياء لديه، فهذا الوصف ينطبق تمامًا مع المريض بالتوحد إذ تتساوى عنده الانفعالات، ولا يستطيع التفريق بينها بسهولة.

هذا المسكين في الأغلب الأعم يحتاج لنوع من الرعاية الخاصة لأنه لا يستطيع القيام على أمر نفسه. أغلب الآيات القرآنية التي ذكر فيها الطعام، أو بصورة أكثر تحديدًا إطعام الطعام، كانت موجهة للمساكين.

ذكر لفظ مسكين في كتاب الله في أحد عشر موضعًا منها ثمانية مواضع متعلقة بالطعام، وكذلك ذكر لفظ إطعام المساكين بصيغة الجمع في موضعين من مواضع كتاب الله. نلاحظ أن الكفارات المتعلقة بالطعام في كتاب الله جاءت جميعها خاصة بالمسكين أو المساكين، بالرغم أن لفظ الفقراء لفظ قرآني أيضا؛ حتى الآية الوحيدة التي حثت على إطعام الطعام لليتيم والأسير جاء على رأسها المسكين.

﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾ (سورة الإنسان: الآية 8)

لقد كان التوصيف القرآني غاية في الدقة عندما جاء الطعام مرتبطًا بصفة المسكين، وهو في الغالب الشخص الذي لا يقوى على القيام بأمر نفسه ويحتاج إلى الطعام، وستتغير وجهة نظرنا بالكامل عندما نفهم ما يعنيه لفظ الطعام وما الحالة التي يصفها.

كلمة الطعام من الكلمات التي تبدو سهلة المدلول، ولكن بالتريث قليلًا سيتضح أن مدلول كلمة الطعام أشمل مما نفهم وتعارف عليه الناس؛ وهو الغذاء.

برغم أن قاموس اللغة قال إن أصل كلمة طعام هو طعم، وتعني تذوق الشيء، إلا أن ورود كلمة الطعام في كتاب الله من خلال الآيات التالية تضيف بعدًاجديدًا لهذه الكلمة وتجعلها أكثر شمولية.

﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ (سورة المائدة: الآية 96).

لفظ "طعامه" هنا عائد على البحر وليس وصفًا مجازيًّا، كما يعتقد البعض، ولكن هو وصف حقيقي، فكل ما هو داخل هذا البحر ويعد جزءًا منه يسمى طعام البحر.

لقد وصف القرآن الكريم كذلك الماء على أنه طعام كما في سورة البقرة، فقد عبر عن فعل الشرب أيضًا بطعمه، الذي هو أصل الطعام.

﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلًامِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ ( سورة البقرة:الآية 249).

بالنظر إلى استخدام فعل طعم وقدرة الإنسان على استخدام هذا الفعل في وصف عملية من عمليات تكاثر الأشجار

وحتى عملية التطعيم، وكذلك تطعيم الحلي، مثل تطعيم الذهب بالماس؛ وبضم كل المعطيات جنبًا إلى جنب، نجد أن فعل طعم يصف حالة إنفاذ شيء داخل شيء آخر بغرض الإفادة. لفظ طعام يطلق على الغذاء، وهو الوصف الأشمل والأعم، ولكن بناء على المعطيات التي بين أيدينا، لا يمكن أن يقتصر الطعام على وصف الغذاء، إذ أيضًا الشراب يمكن تسميته طعامًا، والعلاج أيضًا يصح تسميته طعامًا. لو دققنا النظر في حالة المسكين، وكيف صَاحبها الطعام في أغلب الآيات، وكيف رَغب ربنا، وحث على إطعام الطعام، وخصوصًا في حالة هذا المسكين سندرك بكل سهولة هذا المعنى الخفي لمعنى الطعام وهو يشمل الغذاء والعلاج والشراب أيضًا.

لفظ الطعام يصف حالة معينة كما نقرر دائمًا، مثل جميع الألفاظ في القرآن، ومثال ذلك لفظ المال، وهو لفظ يصف حالة ما يمتلكه الإنسان ويستطيع التصرف فيه؛ النقود والذهب والعقارات والمنزل، وكل ما يملكه الإنسان هو في الحقيقة مال للإنسان.

بعد فهم مدلول كلمة مسكين وكلمة طعام أعتقد أنه قد حان الوقت لفهم مدلول الآية الكريمة التي تتحدث عن ذلك الشخص الذي لا يحض على طعام المسكين، والحض هو مستوى ضعيف من الخيرية، ولا يرتقي إلى مرحلة الإطعام نفسها، هي عملية حث وتشجيع لا غير. هذا الشخص الذي يكذب بالدين ولا يعمل داخل أي منظومة وينكرها، ليس لديه الحد الأدنى من الوازع الأخلاقي الذي يجعله يحض على طعام المسكين. إنه لا يبالي بالمهام الموكلة إليه، إذ لا يقوم بواجبه فقط بل ليس لديه دافع أو ضمير يحركه لمجرد أن يساعد هذا الضعيف في أبسط احتياجاته إن كانت طعامًا أو دواء.

كل مسئول وقعت تحت مسئولياته مهام معينة، وفق قوانين وضوابط، ثم يضرب بهذه القوانين عرض الحائط وينكرها، هو في الحقيقة هذا الخبيث الذي تتحدث عنه السورة الكريمة.

الآية الرابعة: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ﴾

هذه هي الآية الشهيرة التي لا يتذكر الناس سواها، والتي أثارت جدلًا كبيرًا في أوساط المشككين، وحتى بعض المثقفين؛ إذ إنها تتوعد الويل للمصلين الذين يسهون عن الصلاة، ولم يرد ذكر الويل لمن يشرب الخمر مثلًا.

مدلول لفظ الصلاة في حد ذاته يعني حالة من الاتصال، وإقامة علاقة ما، فإذا نسبت الصلاة إلى لفظ إقامة أو إلى ربنا يكون معناها الاتصال بالله، وهي الصلاة الشعائرية، أما إذا لم تنسب لشيء فلا بد أن تُفهم من خلال السياق. سنلاحظ أن التعبير القرآني عندما كان يعبر عن الصلاة الشعائرية كان يستخدم وأقيموا الصلاة، أما إذا كان يقصد الناس الذين يؤدون هذه الشعيرة فكان يصفهم بمقيمي الصلاة؛ والصلاة على ذلك أيضًا هي حالة من الاتصال وإقامة العلاقة مع الخالق.

﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ (سورة البقرة: الآية3).

﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ (سورة البقرة: آية43).

﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ (سورة البقرة: آية 110).

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (سورة البقرة: آية 277).

تفنن أهل اللغة في تقسيم معاني الكلمات إلى معنى اصطلاحي، و معنى لغوي، ومعني شرعي، وهذا التقسيم هو  انعكاس لعدم القدرة على فهم الحالة التي يصفها اللفظ، وتوظيف هذه الحالة من خلال السياق.

المصلين الذين توعدتهم الآية الكريمة هم من لهم علاقات واتصالات، لكن مع من هذه العلاقات والاتصالات؟ من يقرر هذه العلاقات والاتصالات هو التعبير القرآني الذي حل في أول السورة ﴿أرأيت الذي يكذب بالدين﴾.

ما دام أن أصحاب هذه العلاقات يكذبون بالدين، فلا يمكن أن يكون المقصود هنا الصلاة الشعائرية، بل على النقيض تماماً، يصبح المقصود هنا القوانين التي يعمل خلالها هؤلاء ويخضعون لها بقوة المجتمع، وهذه القوانين حكمت العلاقة بين الموظف أو المسئول و المتعاملين معه.

الآية الخامسة: ﴿الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾

من خلال هذه الآية الكريمة سنحاول فهم لفظ ساهون، وهو لفظ ليس مرادفًا للفظ ينسون من النسيان، وإنما يعني، بحسب قاموس اللغة، التغافل أو الغفلة، والفرق بين النسيان والغفلة؛ أن النسيان لا يكون بقصد، بينما الغفلة تكون مقصودة، أو إهمال ما لا يجب إهماله.

التوعد جاء في الآية، لأولئك الذين لديهم مسئوليات وعلاقات مع غيرهم، وهم على ذلك يتغافلون ويهملون ولا يقومون بواجبهم إلا تحت ضغط. القيام بواجبهم تحت ضغط توضحه الآيات التي تصف طبيعة هؤلاء، حيث التجبر على الضعيف الذي لا يملك سندًا، وليس لديهم الحد الأدنى من الإنسانية الذي يؤهلهم حتى للحث على حاجة المحتاج الضرورية ( المسكين)؛ وكذلك الآية التالية تزيد الأمر وضوحًا "

الآية السادسة: ﴿الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ﴾

الرياء معروف وهو فعل الشيء بشكل ظاهري وليس حقيقيًّا بسبب قوة ما. قد تكون هذه القوة رأيًّا عامًّا حيث لا يقوم المسئول بأداء مهامه إلا خوفًا من الرأي العام؛ وقد تكون كاميرا مراقبة، أو أي نوع من القوة الجبرية التي تجبر هذا المسئول على فعل الشيء دون حاجة داخلية حقيقة تدفعه لفعل الأمر وإنجازه، أو حتى جعله يسير في مساره الطبيعي.

الآية الأخيرة ﴿وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾

الماعون في اللغة أصلها "معن" وأصلها يعني السهولة والجريان، فيصبح الماعون هو الأشياء التي من طبيعتها السهولة واليسر. الأشياء التي من طبيعتها السهولة واليسر؛ يقف هذا الشخص عائقًا في طريقها ويمنعها. هل رأيت أخبث من شخص كهذا، لا يعمل وفق القوانين ويضيع حقوق الناس ويصُعب كل سهل، ولا يعمل بشكل صحيح إلا تحت ضغط، وليس لديه الحد الأدنى من الأخلاق؛ هذه النوعية من البشر استحقت بجدارة التوعد بالويل بسبب ما يسببونه من ألم وحنق في المجتمع، ولما ينشرونه من إحباط ويأس بين أفراده. عن طريق فهم لفظ الماعون نكون قد وضعنا اللمسة الأخيرة لفهم هذه السورة العظيمة التي ترشد الناس وليس المؤمنين فقط إلى الطريقة المثلى لتسهيل حياتهم وشئونهم، وهي الالتزام بالمنظومة التي تسير الحياة، وعدم الانفراد والعمل حسب الأمزجة والهوى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الصفحة الرئيسية

ثلاثية تلك الأسباب - الجزء الأول

أكثر الصفحات مشاهدة