الفصل التاسع
انشزوا
الأعداد
التي ذكرت في القرآن تبدو أنها تشير إلى الحد الأدنى والحد الأعلى لما يجب أن يكون
عليه الفريق الذي يبحث أمر المستقبل، ولا مانع أبدًا أن يكون أقل أو أكثر من ذلك. الآية
تشير إلى العدد الأمثل لفريق البحث الذي يدير نقاشًا وحوارًا حول أمر من أمور
المستقبل، فالعدد ثلاثة هو الحد الأدنى للفريق، والعدد خمسة هو الحد الأعلى
للفريق.
كلما
توقفت أمام آية من آيات هذا الكتاب العظيم، ودققت النظر وتذكرت قول الله سبحانه
وتعالى ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ (سورة
القمر: الآية 22). أشعر بحسرة على حال هذه الأمة التي جمع الله لها بين يديها
كتابًا بهذه الروعة، وهذه الشمولية فضيقوه وحصروه في أقوال بسيطة وساذجة، ولم
يمتثلوا أمر ربهم في قراءة آياته وتدبرها والوقوف عليها. بل قيض الله لهذه الأمة
نموذجًا متواضعًا معرفيًّا، ليس لديه أبسط قواعد التفكير، ولكن لديه قاعدة عريضة
من بسطاء المعرفة الذين ينتشون بالأسلوب الخطابي المليء بالأساطير والمحمل
بالعواطف، على حساب المنطق والعقل، والأخطر على حساب كتاب الله. كيف العمل وسط هذا
العقل الجمعي الكثيف الذي تسلط على نفسه وعلى مجتمعه، فشقي وشقيت أمة بسببه وهو لا
يدرك ذلك.
سنعيش
في رحاب خمس آيات من آيات سورة المجادلة تعطي معاني ومفاهيم مختلفة تمامًا عما
فسره المفسرون وخطه التقليديون، إذ تتحدث الآيات عن التخطيط للمستقبل وإدارة
النقاشات من خلال ما يسمى باللجان أو المجالس؛ بل وتتحدث عن المعارضة في هذه
المجالس، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. الآيات محل دراستنا وبحثنا هي الآيات رقم 7
وحتى رقم 11.
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ۖ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ ۚ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا ۖ فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَىٰ مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)﴾ (سورة المجادلة: الآيات 7-11).
الآية الأولى :
﴿َلَمْ
تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ مَا
يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا
هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ
أَيْنَ مَا كَانُوا ۖ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ
إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (سورة المجادلة: الآية 7).
ما
سنحاول فهمه في هذه الآية هو مدلول كلمة نجوى، ومدلول الأرقام التي ذكرت في الآية
الكريمة. برغم أن التفسيرات التقليدية تقول إن النجوى هي الحديث سرًّا، أو الحديث
في الخفاء، إلا أن أصل كلمة النجوى في اللغة ومدلولها في كتاب الله يشير إلى شيء
آخر تماماً.
أصل
كلمة النجوى هو نجو ولها، كما في قواميس اللغة، أصلان: الأصل الأول هو كشف
وطرح، والأصل الثاني سر و خفاء. لو نظرنا
إلى الأصلين نجد أنهما متضادان، أحدهما يعني كشفًا، والآخر يعني سرًّا أو سترًا،
وهذا التضاد تبعًا للمنهج الذي نستخدمه غير وارد؛ إذ لا يمكن أن تحمل الكلمة
الواحدة معنيين متضادين (راجع الجزء الثاني - كتاب تلك الأسباب) تبعًا لذلك نرجح
أن أصل كلمة نجو هو الكشف، وذلك واضح تمام الوضوح من خلال الآية القرآنية التالية:
﴿أَلَمْ
يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللّهَ
عَلاَّمُ الْغُيُوبِ﴾ (سورة التوبة: الآية 78).
لا
يمكن أن تكون النجوى هي أيضًا سر، فكيف أن الله يعلم سرهم وسرهم، ولكن المناسب
للمقال أن الله يعلم سرهم ومكاشفاتهم. المكاشفة تعني الحديث عن المستقبل. النجوى
تبعًا لأصل الكلمة وتبعًا لمدلول الكلمة في كتاب الله سنجد أن لفظ النجوى من ضمن
صفاته القلق والتوتر، ونستطيع فهم ذلك من خلال وصف ربنا للنجوى بأنها من الشيطان؛
سنأتي على هذه الجزئية عندما نتحدث عن الآية الكريمة التي وصفت النجوى من الشيطان.
لفظ
النجوى يعني الحديث عن المستقبل المحمل بالقلق والتوتر، وهو حديث بطبيعة الحال ليس
طيبًا لما له من أثر غير طيب على النفوس؛ بسبب ما يتركه من هموم، وخصوصًا إذا كان
أحد أطراف هذه النجوى متشائماً. يطمئن الله عباده في نهاية الآية بأنه معهم حتى
يزيل همومهم وتزداد لديهم جرعة الاطمئنان. السؤال هنا ما علاقة الأعداد التي ذكرت
في الآية الكريمة وما دلالتها، إذ يقول ربنا ﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ
إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِن
ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ﴾.
في هذه
الجزئية يقول المشككون من أهل اللغة في كتاب الله إن القرآن ليس بليغًا أبدًا؛ إذ
كيف يقول ثلاثة وهو رابعهم، ولا خمسة هو سادسهم، ثم يقول ولا أدنى من ذلك أو أكثر؛
لماذا كل هذا الإطناب، ولماذا لم يقل منذ البداية ما يكون من نجوى بين الناس إلا
هو معهم مثلًا، أو ذكر عددًا واحدًا، وقال أدنى من ذلك أو أكثر؛ مثال: ما يكون من
نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر؛ ما فائدة أن يذكر عبارة خمسة
إلا هو سادسهم وماذا أضافت؟. هذه الإشكالية تعتبر حجر عثرة أمام أهل اللغة، ولا
يمكن الخروج منها إلا بفهم سياق الآيات وموضوعها.
من
خلال قراءتنا لهذه الآية الكريمة، التي تصف الحديث والجدال الدائر في المجتمع عن
المستقبل، وما يحمل هذا المستقبل( الخطط المستقبيلة) وغالبًا ما يكون الحديث عن
تذليل صعاب أو إنجاز مهام أو حل مشكلات، وهذه هي طبيعة لفظ النجوى الذي قلنا إنه
الحديث عن المستقبل المحمل بالقلق والتوتر. هذه النجوى تخص المجتمع سواء كان هذا
المجتمع أسرة، أو اتحاد ملاك بناية، أو شركة من عشرة أفراد، أو مجلس حي، أو قرية،
أو حتى دولة بالكامل، أو هيئة دولية. إنه الإشارة القرآنية إلى فريق العمل الذي
يقوم بمناقشة التطوير والتخطيط، أو اللجنة التي يشكلها المجتمع لبحث أمر ما. هذا
الإجراء معروف ومتبع في كل المجتمعات؛ فعند الرغبة في حل مشكلة أو التخطيط لأمر
مستقبلي فإن الأسلوب الأمثل للتخطيط هو تكوين فريق أو لجنة لبحث الأمر وتقديم المقترحات.
الأعداد
التي ذكرت في القرآن تبدو أنها تشير إلى الحد الأدنى والحد الأعلى لما يجب أن يكون
عليه الفريق الذي يبحث أمر المستقبل، أمر ما، ولا مانع أبدًا أن يكون أقل أو أكثر
من ذلك. الآية تشير إلى العدد الأمثل لفريق البحث الذي يدير نقاشًا وحوارًاحول أمر
من أمور المستقبل؛ إذ العدد ثلاثة هو الحد الأدنى للفريق، والعدد خمسة هو الحد
الأعلى للفريق، ويبدو أن هذا هو الشكل المثالي للفريق. على ذلك يبشرهم الله
ويذكرهم بأنه معهم كنوع من الاطمئنان، ولا يكون هذا الاطمئنان إلا في حالة أن
النجوى نفسها تحمل قلقًا وبعض التوتر كما ذكرنا؛ لذا يقول الله للمؤمنين به أنه
معهم في كل حال.
الآية الثانية :
﴿أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا
عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ
وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي
أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ ۚ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ
يَصْلَوْنَهَا ۖ فَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ (سورة المجادلة: الآية 8).
قبل أن
نحاول فهم مجمل الآية لا بد في البداية من
فهم كملة حيوك، وما معنى بما لم يحيك به الله.
أصل
كلمة حيوك هو الحاء والياء والحرف المعتل، ومعناها عكس الموت . قاموس اللغة يقول
إن لكلمة حي معنى آخر وهو الاستحياء، وهو عكس الوقاحة! للأسف لفظ الاستحياء ليس هو
لفظ الحياء المعروف، وسنكتشف وجود خطأ في توصيف حال هذه الكلمة من خلال كتاب الله.
ورد
أصل كلمة حيوك وهو حيي في كتاب الله في ثلاث صور أولها الحياة، والثانية يستحي،
والثالثة حيوك، التي نحن بصددها، بالإضافة إلى لفظ يستحيون الذي وصف فعل فرعون
وجنوده الواقع على نساء بني إسرائيل.
مدلول كلمة حي
الحياة
كما نعلم هي حالة غير مادية، قل إن شئت طاقة غير مرئية ينفخها الله في الشيء الميت
فيحييه. إننا نتحدث عن حالة إمداد شيء ذي قدرة إيجابية، أو بمعنى أكثر وضوحًا مد
قوة معينة أو نوع من الطاقة. حتى يمكننا التأكد من هذه الفرضية، وهي أن لفظ حيي
أصله مد شيء ذي فائدة، أو مد طاقة نافعة (حيوية)
لا بد أن نطبق هذه الحالة على كل آيات القرآن الكريم التي ذكر فيها جذر
الكلمة حيي ونلاحظ الفرق.
لفظ
الحياة ويحيى، وكل ما يتعلق بالحياة، مطابق تمامًا لمفهوم المد بقوة أو بطاقة
حيوية؛ كل كيان ميت حصل على دفعة حيوية، أو نفخة حيوية لو جاز لنا التعبير، انتقل
من حالة الموت والسكون والثبات إلى حالة الحيوية والحياة.
مدلول لفظ يستحي
لفظ
يستحي الذي جاء من خلال كتاب الله يصف حالة من الخجل، بينما يستخدم الناس لفظ
الحياء تقريبًا بنفس معنى الاستحياء، وهو وصف حالة من الخجل ليس لفظًا قرآنيًّا.
النتيجة التي حصلنا عليها من تحليل الألفاظ انتهت إلى أن لفظ الحياء لا يعنى حالة
من الخجل، كما يعتقد الكثيرون، بل يعني الحالة العكسية وهي حالة خلاف الخجل. اللفظ
الذي يصف حالة الخجل هو الاستحياء، كما جاء في القرآن الكريم، أما لفظ الحياء فهو
توصيف بشري خالص لا يصف حقيقة المقصود (راجع الجزء الثاني عن نظرية اللغة).
كما
ذكرنا أن أصل الكلمة هو حيي مع إضافة الألف والسين والتاء التي تفيد الطلب تحول
الفعل حيي الذي يعني مد طاقة أو إمداد قوة معينة إلى فعل، يعني طلب مدد من القوة
أو من الطاقة (برغم أن أهل اللغة يقولون إن دخول الألف والسين والتاء على الفعل
تفيد ثلاث حالات هي: الطلب، والتحول، ووضع الصفة على المفعول من قبل الفاعل؛ إلا
أنه بالتدقيق نجد أن الثلاث حالات يمكن تضمينها في الحالة الأولى، وهي أن دخول
الألف والسين والتاء على الفعل تفيد الطلب. مثال ذلك فعل غفر واستغفر؛ فالفعل غفر
هو الفعل الذي يقوم به الفاعل، أما الفعل استغفر فهو يفيد طلب المغفرة وهكذا.
من هنا
سنجد أن فعل استحى يعني طلب مدد أو معونة أو طلب تحفيز معين . عندما يقول ربنا إنه
لا يستحي يعني لا يطلب المدد والعون أو تحفيزًا من أحد لضرب مثل كهذا، وإنما
إرادته وقدرته مطلقة وعلمه محيط. عندما حاول المفسرون تفسير (إن الله لا يستحيي أن
يضرب مثلًا ما بعوضة) فقد جاءت في أغلب الأقوال على قولين، أن معنى يستحي هو يأخذه
الحياء أو يخشى كما جاء في تفسير الطبري "وأما تأويل قوله: "إن الله لا
يستحيي"، فإن بعض المنسوبين إلى المعرفة بلغة العرب كان يتأول معنى " إن
الله لا يستحيي": إن الله لا يخشى أن يضرب مثلًا ويستشهدُ على ذلك من قوله
بقول الله تعالى: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ (سورة
الأحزاب: آية 37)، ويزعم أن معنى ذلك: وتستحي الناسَ والله أحقُّ أن تستحيه -
فيقول: الاستحياء بمعنى الخشية، والخشية بمعنى الاستحياء "انتهى التفسير.
فعل
استحى الذي استخدمه القرآن لوصف ما يسميه الناس "الحياء" هو في الحقيقة
يصف الحالة التي يكون عليها الشخص عندما يخجل أو يحدث له تردد في أمر ما (لفظ حيي
الذي يصف مددًا أو قوة أو طاقة إذا أضيف إليه
مقطع الف وسين وتاء أصبح استحياء
وهو طلب قوة أو طاقة أو دعم معين).
الشخص الذي يستحي هو شخص حرفيًّا يطلب عونًا أو مددًا أو تحفيزًا لفعل ما يريد
فعله، وقد يكون هذا العون أو المدد في صورة كلمة طيبة أو ابتسامة، أو أي نوع من
أنواع التشجيع المعنوي. كلمة استحياء هي طلب التشجيع والعون حتى يستطيع الشخص فعل
ما يود فعله.
عندما
قدمت فتاة مدين إلى موسى عليه السلام لتخبره أن أباها يدعوه ليجزيه أجر ما سقى
لهما كانت تمشي على استحياء، وكأنها تطلب قوة تعينها على ما ستفعله، وهذا هو حقيقة
الاستحياء، طلب مدد أو قوة أو طاقة تعين صاحبها على أداء الفعل المتوقع.
﴿فَجَاءَتْهُ
إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ
لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ
الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ ۖ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ (سورة
القصص: آية 25). سنلاحظ أن كلمة الحياء نفسها لم ترد في كتاب الله بالمرة، وهذا ما
نسمية في منهجنا الفرق بين التسمية القرآنية والتسمية البشرية التي ما أنزل الله
به من سلطان. من خلال فهم مدلول كلمة حيي وفهم كلمة الحياة والاستحياء سنجد أن لفظ
الحياء نفسه لا يصف حالة الخجل التي نعرفها، وهو وصف غير دقيق، إذ تبعًا لمدلول
الكلمة القرآني سنجد أن كلمة الحياء تصف قوة ومددًا وعونًا بخلاف كلمة الاستحياء
التي تصف طلب هذه القوة والعون والمدد، وهذا هو الفرق بين ما نتبناه من خلال
منهجنا، وما يتناقله الآخرون و يتعصبون له.
مدلول كلمة يستحيون
لفظ
يستحيون التي جاء يصف ما يفعله آل فرعون بنساء بني إسرائيل يسير على نفس النسق،
ومعناها أن فرعون وجنوده يطلبون أو يأخذون نساء بني إسرائيل الصغيرات اللاتي لديهن
قدرة وقوة وطاقة، وليس النساء الضعيفات أو المتقدمات في السن.
مدلول لفظ حيوك
لفظ
حيوك الذي نحن بصدده هو أيضًا يصف حالة من المدد والدعم - كما قلنا - المعنوي وليس
جنس التحية التي نعرفها. سميت التحية تحية لأن من صفاتها وخصائصها تقديم الدعم
والقوة، أو إذا شئت قل نشر الطاقة الإيجابية بين الناس. دعونا نعرج قليلًا على
مسألة التحية، وما يفعله الناس في شأن التحية ويظنونه من الدين، ومن التوجيهات
الإلهية، وهي على خلاف ما أراد الله.
يقول
ربنا ﴿وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾ (سورة النساء: آية 86). التحية هنا
جاءت بلفظ عام، ولم تخصص شيئًا معينًا، كما يقول المفسرون إن المخصوص هو السلام
عليكم . لا يمكن أن ننكر أن لفظ السلام عليكم من التعبيرات ذات المردود الطيب على
النفس لمن يفهم ويعي مدلولها. لكن لا بد
أن نفهم معنى التحية، ومعنى حييتم كما ذكرنا لنفهم كيفية التعامل مع بعضنا بعضًا
دون مزايدات، وحتى نحقق مراد الله ونتجنب الوقوع في مخالفة التوجيه الرباني. يقول
الله إذا حييتم بتحية، وتعني - كما أسلفنا - إذا تلقيتم مددًا أو عونًا معنويًّا
أو طاقة إيجابية في أي صورة، مثل كلمات أو إيحاءات أو أفعال، فردوا هذه الطاقة والمدد
والعون بأحسن مما تلقيتم. ذلك يعني عندما يلتقيك شخص أو حتي مقيم معك ويدعمك
بعبارة إيجابية، أو إطراء، أو مدح، أو إلقاء التحية؛ وجب عليك أن تبادله هذه
التحية وهذا الدعم بشكل أفضل مما قدمه لك. على سبيل المثال إذا أثنى شخص على فعل
فعلته وجب عليك أن تقدم له الثناء على ما قدم وتزيد في ذلك، وإذا لقيك شخص وقدَّم
لك التحية بأي شكل وجب عليك أن ترد عليه هذه التحية بشكل أفضل. لا شك أن إفشاء
السلام والتحية والابتسام بين الناس بعضهم بعضًا يدعم الطاقة الإيجابية، ويزيد
الشعور بالراحة والطمأنينة بين الناس، وهذا هو عين التوجيه القرآني.
ماذا
يحدث عندما يلقي أحدهم تحية غير السلام عليكم؟ ردود أنماط البشر ستختلف باختلاف
الخلفيات الثقافية والمخزون المعرفي لديهم. النمط الأول سيقوم برد التحية بغض
النظر عن صيغة التحية. النمط الثاني قد يرد بلفظ السلام عليكم في محاولة للفت نظر
الشخص الآخر أن التحية المعتمدة إسلاميًّا هي السلام عليكم. النمط الثالث قد لا
يرد التحية من الأساس. نحن هنا معنيون بالنمط الثاني الذي سيلفت نظر الطرف الآخر
لتحية الإسلام، هل هذا الفعل فعل صواب تبعًا للمنهج القرآني؟ هل هذا السلوك سلوك
يدعم الطاقة الإيجابية؟ هل هذا السلوك يمنح الناس راحة وهدوءًا ودعمًا نفسيًّا؟أم
أنه سلوك يشعرهم بالخجل والتوتر؟
عدم
فهم اللفظ القرآني بشكل صحيح خلق أجيالًا تنشر الكراهية وهي لا تدري، وتصد الناس
عن منهج الله وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، لا شك أن تحية السلام عليكم تحية
طيبة، ولكن هذا لا يعطيك الحق في أن ترفض تحية الناس، وبدلًامن العمل بالمنهج القرآني الذي حث على
نشر الطاقة الإيجابية نعتنق منهجًا مخالفًا، ونقوم بنشر الطاقة السلبية بين الناس
بحجة تعليمهم في وقت ليس مناسبًا للتعليم. بعد فهم معنى حيوك وأصلها نعود مرة أخرى
للآية الكريمة التي تتحدث عن النجوى.
﴿أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا
عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ
وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي
أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ
يَصْلَوْنَهَا ۖ فَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ (سورة المجادلة: الآية 8).
يشير
كتاب الله إلى أولئك الذين يتحدثون عن الأحداث المستقبلية والمشاريع المستقبلية
بشكل غير طيب، أو بشكل تآمري كما أوضحت الآية؛ إذ تقول إنهم يتناجون بالإثم
والعدوان ومعصية الرسول، ثم إذا جاء هؤلاء بثوا ودعموا بأشياء خلاف ما أمر بها
الله، فإذا كان الله سبحانه وتعالى يدعم عباده بالتواصل والرحمات، والعون فهؤلاء
على عكس ذلك يبثوا التشتت والقنوط والعوز. هؤلاء أصحاب الخذلان والمثبطون بشكل
تآمري، توعدهم الله بنار جهنم وبئس المصير..
الآية الثالثة
﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ (سورة المجادلة: الآية 9).
بعد
فهم مدلول لفظ النجوى وتوضيحه لن نجد عقبة في فهم هذه الآية الكريمة المباشرة، إذ
ترشد هذه الآية الكريمة الناس إلى الطريقة المثلى التي عليهم امتثالها حيال أمر
مناقشة أو الحديث عن الأمور المستقبلة، وإن كان الحديث عن المستقبل يحمل نوعًا من
القلق، فلا يجب أن يترجم هذا القلق إلى تجاوز ويجب تجنب التعدي والبعد عن المعاصي.
مناقشة أمور المستقبل وما تحمله من قلق قد يكون مفهومًا في كثير من الأحيان؛ ولكن
لا يجب ألا تدفع هذه النجوى الإنسان أو المجتمع إلى اتخاذ خطوات فيها من الإثم
والعدوان، وتحمل قدرًا كبيرًا من المعاصي. هذا المثال واضح بشكل لا يمكن إنكاره
فيما يعرف باتخاذ بعض المواقف الخاطئة بحجة تأمين المستقبل، أو بحجة أن الطرف
الآخر كان ينوي فعلًا بشكل معين. كتاب الله يقول للناس لا يدفعكم هذا الإحساس إلى
النجوى بالشر، ولكن قدموا الخير واجعلوا الله أمامكم، واعلموا أن الله معكم كما
ذكرت الآية السابقة. الآية التالية ستزيد الأمر وضوحًا عن وصف كلمة النجوى
ومدلولها.
الآية الرابعة :
﴿إِنَّمَا
النَّجْوَىٰ مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ
بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُؤْمِنُونَ﴾ (سورة المجادلة: آية 10).
إذا
كنا قد استطعنا فهم كلمة النجوى بأنها المكاشفة أو الحديث عن المستقبل، فإن هذه
الآية الكريمة تضيف بُعد القلق للفظ، إذ يقول الله إن النجوى من الشيطان. يصف ربنا النجوى
بصفة عامة، ولم يقل إن بعض النجوى من الشيطان، فلو أن التعبير القرآني قال إن بعض
النجوى من الشيطان لكان الأمر مختلفًا. كيف يمكن لوصف النجوى بأنها من الشيطان أن
تضيف بُعد القلق للكلمة؟
آلية
عمل الشيطان تقوم على مبدأين أساسيين هما التخويف والتزيين. أما التخويف فكما في
الآية التالية: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ
تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ (سورة آل عمران : الآية 175).
وأما التزين فقد ورد في سورة سبأ: ﴿وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ
مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ
السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ﴾ (سورة سبأ: الآية 24).
إذا
كان التزيين غالبًا ما يرتبط بالحاضر فإن التخويف في الأعم يكون من المستقبل،
ولذلك يستخدم الشيطان هاجس الفقر والعوز ليدفعكم نحو الانحراف: ﴿الشَّيْطَانُ
يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً
مِّنْهُ وَفَضْلًاوَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (سورة البقرة: الآية 268).
التخويف
من المستقبل هو سبيل من سبل الشيطان، يُورث هذا الهاجس القلق لدى الإنسان مما
يجعله في حالة غير مستقرة؛ هذه الحالة غير المستقرة هي من الدوافع الرئيسية لفعل
المنكر؛ لذلك إذا كانت النجوى هي مناقشة أمر المستقبل، وإذا كانت النجوى من
الشيطان فلا بد أن يكون من صفات وخصائص لفظ النجوى القلق والتوتر.
الآية الخامسة
﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ
فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ (سورة المجادلة: الآية 11).
سورة
المجادلة من بدايتها تدور حول موضوع الحوار والجدال واسمها المجادلة لا يحتاج إلى
بيان، وقد بينا أن النجوى هي مناقشة أمر المستقبل وليست تعني الحديث سرًّا كما
فسرها المفسرون، وهذه المناقشة بطبيعتها يغلب عليها القلق والتوتر، والآن نختم
بهذه الآية العظيمة التي تشير إلى قواعد إدارة حوار في شأن من شئون المجتمع، سواء
كان هذا الحوار والمناقشة تتم داخل إدارة تتكون من ثلاثة أفراد أو على مستوى وطن
بأكمله. لا يمكن بحال من الأحوال فصل الآية الكريمة عن بعضها بعضًا، أو عن سياق
الآيات السابقة التي تناولت موضوع الحوار والمناقشة، ولا يمكن أيضًا أن نفسر الآية
الكريمة دون الأخذ في الاعتبار الإشارة الربانية إلى أهل العلم الذين قال ربنا
عنهم: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾.
ثلاث
كلمات يجب أن نستبين معناها حتى نفهم ما المقصود من هذا الإرشاد الرباني، وهي كلمة
تفسحوا وكلمة مجالس وكلمة انشزوا .
مدلول كلمة تفسحوا
أصل
كلمة تفسحوا هو فسح، وكما جاء في قاموس اللغة، تعني السعة والاتساع، كما تعودنا أن
الكلمات والألفاظ في كتاب الله تصف حالة معينة، ولا تصف جنسًا، وعليه فإن لفظ
تفسحوا يصف حالة من التوسع والتبسط، أو إعطاء فرصة، سواء كانت هذه الفرصة في شكل
مادي أو شكل معنوي. المقصود هنا في الآية الكريمة هو أن تعطي فرصة ومجالًا لغيرك
في المجالس. سيتضح الأمر أكثر فأكثر عندما نستبين لفظ المجالس.
مدلول كلمة مجالس
أصل
كلمة مجالس هو جلس وتعني الارتفاع في الشيء، لذلك وضع الجلوس المعروف لا يسمي
جلوسًا إلا إذا انتقل الجالس من وضع النوم أو الاضطجاع إلى وضع القعود، أما
الانتقال من وضع القيام إلى وضع الجلوس فيسمي قعودًا .
إذن الجلوس
هو الارتفاع في الشيء، والمجالس تبدو وكأنها الكيان الذي يحوي هؤلاء الجلوس، ويبدو
أيضًا من أصل الكلمة أنها من خاصيتها الارتفاع أو الرفع بصفة عامة، وأرجح بشدة أن
المجالس هي الكيانات التي ترفع فيها الأشياء، أو بمعنى أكثر وضوحًا، رفع أمر ثم
مناقشته.
لفظ مجالس
الذي جاء في كتاب الله يبدو موافقًا تمامًا للكيانات التي يسميها الناس مجالس في
عصرنا الحديث، مثل مجلس القرية، أو مجلس المدينة، أو مجلس المحافظ، أو مجلس الشعب،
أو الحكم، أو حتى مجلس إدارة شركة. هذا التوافق العجيب بين المسمى القرآني، وقدرة
النفس البشرية على التسمية بشكل صحيح أحيانًا أشرنا إليها في الجزء الثاني من كتاب
تلك الأسباب، حيث القدرة المذهلة للنفس على التسمية، والتي من النبع الإلهي الأول
الذي قرره رب العالمين عندما قال علم آدم الأسماء.
هذه
القدرة العجيبة تجدها في أغلب المسميات التي تتوافق تمامًا مع خصائص المسمى
وصفاته، والتي عبَّر عنها المنهج القرآني بأنها مسميات سميت بسلطان، أو كما ذكرنا
بقانون التسمية الذي أودعه الله عباده من لدن آدم. على نفس النهج هناك تسميات لا
تتبع هذا القانون، وقد عبَّر عنها القرآن بالقول إنها مسميات ما أنزل الله بها من
سلطان.
لا
يمكن التفريق بين المسمى الذي يتبع القانون الإلهي، والمسمى الذي لا يتبع القانون
إلا من خلال البحث والتنقيب، وسبر أغوار المعرفة حتى يتبين الصواب من الخطأ. إنه
التعليم بالقلم الذي ذكره ربنا في كتابه، الذي أفردنا له فصلًا كاملًا في الجزء
الثاني من كتاب تلك الأسباب - فصل علم بالقلم).
تفسير
الكلمات القرآنية منفردة عن السياق، وعدم ضم بعضها إلى بعض جعل آيات القرآن منعزلة
عن بعضها بعضًا، وكأنها تتحدث عن ألغاز بينما استخدام المنهج العلمي ذي الفرضيات
المحددة في فهم اللفظ القرآني، الذي يتعامل مع اللفظ على أنه وصف لحالة معينة
بدلًا عن الفهم السابق الذي يعتقد أن اللفظ القرآني هو وصف لجنس شيء معين، إذ قيست
ألفاظ كتاب الله على مقاس فهم البشر مما أنتج كارثة معرفية.
مثال
بسيط على هذه الفرضية: عند سماع لفظ السماء فإن أول ما يتبادر إلى الذهن شكل سقف
يحيط بالأرض، وهذا ما يسمى تجسيد المسمى لسهولة فهمه، بينما الحقيقة أن الاسم يصف
حالة مجردة، فنجد أن لفظ سماء يصف حالة ارتفاع من صفاته وخصائصه الإحاطة. يفهم لفظ
السماء بحسب سياق التعبير، فمن الممكن أن تكون الغلاف الجوي، أو أي طبقة من طبقات
الغلاف الجوي، ومن الممكن أن تكون سقفًا لبناية، ومن الممكن أن تصف حالة غير مادية
مثل حدود معلوماتك، أو تطلعاتك، وهكذا يجب أن نفهم في البداية الحالة التي يمثلها
المسمى، ثم نحاول فهم المدلول من خلال فهم السياق.
على
ذلك يمكن فهم المجالس على أنها أماكن الاجتماعات، ومناقشة الأمور على كل
المستويات، وسنضع اللمسة الأخيرة على هذا المفهوم من خلال فهم كلمة انشزوا التي
وردت في الآية الكريمة: ﴿وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا﴾ فما هو النشوز؟
مدلول لفظ النشوز
النشوز
أصله نشز، كما في قاموس اللغة، يعني الارتفاع والعلو، والنشز هو المكان المرتفع.
عندما فسر المفسرون كلمة انشزوا قالوا إنها تعني ارتفعوا إلى الصلاة، ومنهم من قال
تعني قوموا إلى القتال، ومنهم من قال تعني قوموا إلى الخير. لا أدري على وجه
الخصوص ما علاقة كل هذه التفسيرات بسياق الآية، وخصوصًا مع ذكر العلم ودرجاته في
نهاية الآية الكريمة. ما علاقة النشوز كذلك بالآيات السابقة. للأسف الشديد نجد أن
قاموس اللغة لم يبين بشكل قاطع معنى الكلمة، ولكن بفضل الله سنجد أن مدلول النشوز
واضح تمامًا في كتاب الله، وخصوصًا من خلال الآية الكريمة التي تتحدث عن عدم طاعة
الزوجة لزوجها.
﴿الرِّجَالُ
قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ
وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ
لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ
فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ
أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلًاإِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا
كَبِيرًا﴾ (سورة النساء : الآية 34).
النشوز
في الآية الكريمة هو عكس الطاعة، والطاعة في مضمونها تعني الموافقة؛ فيصبح النشوز
عدم الموافقة أو عدم الاتفاق أو ما نسميه نحن بالمعارضة.
ها قد
وضحت المفردات واستطعنا فهم سياق الآية الكريمة التي تتحدث عن طريقة إدارة
الاجتماعات وفن المناقشة. لمحة أخيرة من خلال التعبير القرآني "إذا قيل
لكم" الذي جاء في بداية الآية الكريمة يوحي ونفهم منه أن من متطلبات هذه
الاجتماعات أن يكون لها مدير من مهامه تنظيم عملية النقاش، من إتاحة الفرصة
للمتحدث أن يعبر عن فكرته (تفسحوا في المجالس)، وإتاحة الفرصة للمعارضة أن تبدي
فكرتها (انشزوا فانشزوا) في شكل منظم؛ لكي لا يطغى أحدهما على الآخر. إنه التوجيه
القرآني السليم الذي يحث أتباعه على إدارة النقاش بشكل سليم وصحي فيما يخص أمورهم
المجتمعية، وخاصة المستقبلية منها. ها نحن نرى المعارضة قد أسس له المنهج القرآني،
ورتب أوراقها، وأرشد إلى أنها جزء لا يتجزأ من عملية إدارة أي نقاش يخص المجتمع،
أما من يتجرأ ويقول إنه لا توجد معارضة في الإسلام، أو يعتقد أن المعارضة شكل من أشكال
الهدم، فهو معذور بسبب الفهم المقلوب للفظ القرآني. لم تترك الآية الكريمة عملية
النقاشات والاجتماعات وطرح الأفكار ومعارضتها دون أن تلفت النظر إلى متطلب أساسي
من متطلبات تلك المناقشات؛ وهي الإيمان، والعلم، وفهم درجات العلم: ﴿يَرْفَعِ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾. لا
بد أن نتساءل عن علاقة الإيمان والعلم ودرجات العلم بإدارة النقاشات، وتأسيس
المجالس التي تتولى التخطيط والتنظيم في المجتمع. إن كان الأمر واضحًا ولا يحتاج
إلى بيان، إلا أننا سنعرج عليه قليلًا لبيان ما هو الإيمان، ولماذا العلم من
متطلبات تلك المجالس.
لفظ
الإيمان يعني الثقة والاطمئنان والرسوخ في الشيء، فإذا جاء الإيمان مقرونًا بالله
فهو يعني الثقة والاطمئنان ورسوخ الاعتقاد بوحدانية ووجود الله، أما إذا جاء في
سياق آخر فلا بد أن يُفهم من خلال هذا السياق. الإيمان في الآية الكريمة جاء
مرتبطًا بعملية حوار مجتمعي حول شأن من شئون المجتمع، فلا بد أن يكون الإيمان
والعلم متعلقًا بهذه العملية. إنه التعليم الرباني الذي يرشد عباده إلى رفعة شأن
الإيمان، والذي عرفناه بالثقة والاطمئنان والرسوخ، وهو متعلق بالشأن الذي سيبحثه
هذا المجلس. هذه الثقة وهذا الاطمئنان وهذا الرسوخ لو حاولنا ترجمته إلى لغتنا
المعاصرة فالمقصود هو الخبرة، إذ يكون صاحبها أكثر وثوقًا واطمئنانًا بالمعلومات
المتاحة لديه في هذا المجال. المتطلب الثاني هو العلم، ولا شك أن العلم متطلب لا
يخفى على أحد، ويرشد كذلك كتاب الله إلى رفعة أولئك الذين تدرجوا في العلم؛ هذا
التدرج لا شك يمنحهم قدرة ودراية ورؤية أشمل للأمر المراد مناقشته.
التوجيه
الإلهي باستخدام أهل الخبرة والعلم في إدارة المجتمعات وحل مشاكلها ومناقشة
قضاياها، تم استبداله في كثير من
المجتمعات الضحلة معرفيًّا، وغير المحصنة ثقافيًّا، بأهل المال أو أهل القبيلة.
فبدلًا من أن يتصدر المشهد أكفاء القوم؛ تصدر المشهد الانتهازيون والأفاقون،
والذين لا ينفقون أموالهم إلا رئاء الناس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق