الفصل السادس
فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي
فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا
هل
يمكن أن يفاجئنا العلم بأن المادة بتركيبها المعروف وطبيعتها الملموسة هي في
الحقيقة لا شيء، فكل ما تراه أمامك ما هو إلا مجموعة من الأفكار، أو مجموعة من
العلاقات، أو مجموعة من الأحداث. قد يتبدل مفهومنا الساذج عن تكوين المادة في أنها
تتكون من جزيئات تتكون بدورها من ذرات، والتي تتكون أغلب كتلتها من بروتونات
ونيترونات، ثم إن البروتونات والإلكترونات تتركب من كوركات، وأن الكوركات بالنهاية
ما هي إلا أوتار متناهية الصغر في حالة اهتزاز. فلو انتهينا إلى أن المادة تتكون
من أوتار صغيرة، ثم إن العلماء قالوا إن الوتر هذا يتكون من لا شيء، هو فقط وحدة
تكوين المادة !! فلا يبقى لدينا إلا العلاقة التي تربط هذا الوتر بآخر، وهكذا حتى
نصل لأول جسيم مادي ملموس، فهل خُلق الكون من علاقات لا نهائية.
مقدمة
هل
يمكن أن يتسبب سلوكٌ منحرفٌ لمجموعةِ من البشر في إحداث مصائب وكوارث طبيعية على
سطح الأرض؟ أقصد هنا المعنى الفيزيائي؛ أي أن سلوكًا نابعًا من النفس البشرية يؤثر
ماديًّا في محيطه عن طريق علاقة حقيقة بين النفس والكون. لو أمكننا طرح السؤال
بطريقة أخرى، هل السلوك غير المنسجم مع "الفطرة" يسبب إزعاجًا بقدر ما
للطبيعة من حولنا؟
قد
يبدو للوهلة الأولى أن الأمر أشبه بروايات الخيال العلمي، ولكن الحقيقة أن أكثر
العلماء تحيزًا للتأثير المادي لم يعد بإمكانهم تجاهل التأثير الفيزيائي للنفس في
وسطها المحيط؛ بسبب الملاحظات التي لا يمكن أن تُخطئها العين. لا نحتاج إلا قليلًا
من علم الإحصاء وعلم الطبيعية، لندرك أن التأثير المادي للنفس البشرية حقيقة
واقعة، ولكننا نجهل الكثير والكثير عنها.
منذ
قديم الأزل عايشت البشرية كثيرًا من الظواهر الخارقة وغير المفهومة، وخارج حدود معرفتها، مما جعل العقل البشرى متحيراً في
فهم وتفسير تلك الظواهر. غالبًا ما كان يلجأ العقل إلى الهروب للأمام، فتجده تارةً
يُرجعها إلى قدرة الله دون الخوض في تفاصيل، وتارة يحيلها إلى قوى خفية ومخلوقات
غير مرئية، أو يريح نفسه من عناء التفكير فينكرها ويعدُها ضربًا من الوهم أو
الخداع البصري.
كل
الثقافات الشرقية والغربية القديمة والحديثة، بلا استثناء، لديها ملاحظات وقصص
وتفاسير مختلفة لما يسمى بـالقوى غير المرئية، أو قوى ما وراء الطبيعة. الإنسان في
مراحله الأولى كان يقف مشدوهًا أمام بعض الظواهر التي نعدُها اليوم أشياء بديهية؛
فقد فسر القدماء المصريين خسوف الشمس بأن ثعبانًا يلتهم مركب الشمس التي يُبحر بها
إله الشمس، ولكن ما تلبث أن تعود المركب من جديد. تفسير الرياح والعواصف بأنها
زفرات الشياطين، وأن الأمطار دموع الإله؛ وهكذا تجد أن الإنسان في حالة استنفار
دائم لفهم الظواهر من حوله، وإعطائها تفسيرًا منطقيًّا بحسب المتاح لديه من علوم
ومعرفة.
عند
الحديث عن القوى النفسية وتأثيرها الفيزيائي يجب ألا تسيطر الخرافات والأساطير
والموروثات الخزعبلية على عقلك، فنحن هنا بصدد عرض الأمر على العلم وبحثه بصورة
مستقلة، دون تدخل لعاطفة أو حكم مسبق، أو أي نوع من أنواع التحيز المعرفي الذي قد
يفسد النتائج.
هناك
إرهاصات قديمة قدم وجود الإنسان تشير إلى محاولات عدة لفهم التأثير المادي
المتبادل بين النفس ومحيطها، ففي القرن الخامس قبل الميلاد تنبأ عالمان هما
"ديموكرايتس" و "ليسيبوس" من خلال نظرية مشهورة تنص على أن
"العالم يتكون من ذرات وفراغ فقط".
حاولت
النظرية تفسير الكون والوصول إلى الوحدات الأساسية له؛ وظل هذا التصور سائدًا لزمن
بعيد، إلى أن جاء نيوتن ونظريته ميكانيكا الكمِّ، التي تحاول تفسير سلوك الأجسام
الكبيرة، ثم تبعه أينشتاين ونظريته النسبية، التي تحاول فهم سلوك الأجسام الذرية،
وظلت هناك فجوة بين النظريتين إلى أن ظهرت نظرية الأوتار الفائقة، في محاولة
للتوفيق بين النظريتين، وفهم الكون من منظورٍ آخر. لو صحت نظرية الأوتار الفائقة
لأذهلت كل علماء العالم المعنيين بدراسة الطبيعة؛ إذ يطلق العلماء على هذه النظرية
ما يسمى (قانون كل شيء أو نظرية كل شيء) وسنعود لنظرية الأوتار الفائقة بعد قليل.
"إن الإنسان والجماد يبثان ذبذبات يمكنها
اختراق المسافات" هكذا يقول العالم الإغريقي ديموكريتس، ليؤكد أن مسألة اتصال
مكونات الكون ليست وليدة العصر الحديث، وإنما لها جذور تاريخية موغلة في القدم.
أستطيع أن أؤكد لكم أن استمرار العلم والبحث، وتضافر جهود علماء الفيزياء والأحياء
وعلم النفس، ستصل قريبًا، وقريبًا جدًّا لتفسير معقول ومقبول للظواهر الخارقة
للنفس، وسيصبح تأثير السلوك النفسي مقاسًا بدرجة كبيرة. قد يصل العلم إلى أبعد من
ذلك، مثل التوصل إلى الجينات المسئولة عن كل أنواع السلوك البشري، ويجري تحديدها
والعمل عليها.
إن سبر أغوار هذه المعرفة كفيل بفتح نافذة نطل
من خلالها على ملامح قدرة النفس البشرية الهائلة، وقد تفتح لنا بابًا مغلقًا لنجد
أنفسنا وجهًا لوجه أمام مفاتيح النفس البشرية، وقياس أشياء لا يمكن قياسها، مثل
الأمل والرغبة والحب والسعادة، وقد لا أكون مبالغًا إذا قلت إن فهم أمر كهذا جدير
بأن يترجم لنا سر وقوة الدعاء المادية، ومدى تأثيره في الأحداث. وعلى الجانب الآخر
قد تمكننا هذه المعرفة من تفسير الشعور السلبي، مثل اليأس والفتور والكره والحزن
والحقد والحسد. ليس مستبعدًا أن نكتشف قوة وطاقة معينة للنيات والأفكار، وقدرتها
الفائقة على التأثير في الواقع الذي نعيشه. إنها قدرات النفس الخارقة، التي لا
ندري عنها شيئًا حتى الآن.
لقد
أُخضِعتْ بالفعل كثير من سلوكيات النفس البشرية للدراسات، وأُحضِرتْ لطاولة البحث
لنكتشف أشياء مذهلة. لا بد أن نؤكد أننا ما زلنا على أعتاب فهم النفس البشرية، ولا
يستطيع أحد التكهن بما تحمله الأيام القادمة. ها هو الجدار الفاصل بين المادي
واللامادي يريد أن ينقض، أو أنه انقض فعليًّا ولم يبقَ من هذا الجدار إلا فكرتنا
الكلاسيكية عنه. إننا نتحرك خلال ثلاثة أبعاد، هي الطول والعرض والارتفاع، أضف إلى
ذلك البعد الرابع وهو الوقت، وغالبا ما تتمحور معرفتنا خلال هذه الأبعاد. ولكن إذا علمت أن علماء الفيزياء يعكفون على
دراسة ما يقارب 26 بُعدًا، أُدمجوا في عشرة أبعاد أو أحد عشر بُعدًا لفهم هذا
الكون وفقًا لأحدث النظريات لتفسير ووصف الكون؛ وهي نظرية الأوتار الفائقة مما
يجعل إدعاء المعرفة مسألة صعبة للغاية والإصرار على امتلاك الحقيقة نوع من التأخر
العقلي.
نظرة على نظرية الأوتار الفائقة . Superstring
Theory
إننا
نعيش في عالم أغرب مما نتخيل، هكذا يعتقد علماء الفيزياء العاملين على نظرية
الأوتار الفائقة، وهي نظرية تحاول التوفيق بين نظرية ميكانيكا الكمّ ونظرية
النسبية للعالم الشهير أينشتاين.
تحاول
نظرية الأوتار وصف الكون بشكل دقيق، وقد تخلت النظرية عن الوصف التقليدي للكون
بأنه ذو أربع أبعاد، بل فرضت أبعادًا تصل إلى عشرة أبعاد أو أحد عشر بعدًا، ولكي
توفق بين الأبعاد المعروفة، وهي أربعة أبعاد والأبعاد الأخرى، افترضت النظرية أن
الأبعاد الستة الباقية يجب أن تكون مكورة في حيز صغير جدًّا في الفضاء.
ولتبسيط الأمور أكثر ومحاولة فهم الوضع نقول إن
هذه النظرية تتنبأ بنتائج خرافية لنسيج الكون، وربما تفسر انتقال التأثيرات
الصغيرة للكون، أو الانتقال الآني، أو ما يسمى الانتقال في طرفة عين؛ هذه النظرية
تقول ببساطة: لا زمان لا مكان، الكون كله ملتف على بعضه بشكل لا يمكن تصديقه أو
استيعابه بسهولة.
لقد
حاول العلماء الإبحار في المادة لمعرفة مما تتكون، وحتى وقت قريب كانت كل فكرتنا
عن المادة أنها تتكون من ذرات، والذرة تتكون من جسيمات تحت ذرية، وهي البروتونات
والنيترونات، ثم تم اكتشاف الكوارك حديثًا، وهو ما يتكون منه البروتون والنيترون،
ثم جاءت نظرية الأوتار الفائقة لتفرض أن هناك وحدات أصغر بكثير من الكوارك، وهي
التي تتركب منها المادة، وقد سميت بالأوتار. هذه الأوتار في حالة حركة مستمرة؛
وإذا سألت العلماء عن هذه الأوتار، ومما تتركب سيقولون لك إنها تتكون من اللاشيء !
نعم لا شيء!! قد تكون مجرد اهتزازات أو نبضات أو حتى "أحداث" ولكن في
النهاية لا شيء، وبالطبع هذه النظرية لن تكون الأخيرة، بل هي حلقة أخرى من حلقات
العلم الذي يدهشنا كلما تعمقنا بحثًا عن الحقيقة.
دعونا
نعود مرة أخرى إلى موضوعنا، فلو أننا وصلنا لمراحل متقدمة في نظرية الأوتار لما
احتجنا بالأساس إلى أن نشرح كل ما سيأتي تفصيله، فهذه النظرية لو صحت ستكون كفيلة
لتفسير تأثير سلوك وشعور الكائن الحي على المادة، أو ما نسميه نحن المادة.
والآن
نستعرض بعض النقاط البسيطة، التي ترتبط بقدر ما بفكرة تأثير السلوك الإنساني أو
النفسي في الوسط المحيط.
أولًا: سنتعرف على قدرة التأثيرات
المتناهية في الصغر على إحداث تحولات عظيمة الأثر.
ثانيًا: سنلقي نظرة على العلاقات بين النفس
البشرية والطبيعة.
ثالثًا: سنلقي نظرة على التأثير الفيزيائي
لهذه العلاقات على بعضها بعضًا.
رابعًا: سنحاول فهم بعض الظواهر القرآنية،
وبعض الإشارات في كتاب الله ونجتهد، وعلى الله قصد السبيل.
تأثيرات
صغيرة يمكن أن تحدث تغيرات عظيمة
لا شك
أنك قرأت أو سمعت عن نظرية تأثير جناح الفراشة “Butterfly
effect “،
نظرية الفراشة تعد جزءًا من نظرية الفوضى، التي تفترض وجود روابط وعلاقات بين جميع
مكونات الكون، ولا وجود أبدًا للصدف.
ملخص
النظرية: أن التغيرات الصغيرة في البداية قد تؤدي إلى تغيرات عظيمة في النهاية.
كانت البداية عام 1963 على يد العالم الأمريكي "إدوارد لورنز" الذي كان
يعمل على برنامج التنبؤ بالطقس؛ وفي أثناء البرمجة أدخل العالم الأمريكي الرقم
156.642 بدلًا من الرقم 156.642135 كأحد مدخلات البرنامج، ويبدو الفرق لا يكاد
يذكر فهو 0.000135 وعادة مثل هذا الفرق يتم إهماله في الحسابات، ولكن كانت
المفاجأة، فقد اختلفت النتائج اختلافًا كبيرًا جدًّا، مما أدى فيما بعد إلى اكتشاف
نظرية الفوضى، التي تنص على أنه "لا وجود لشيء عشوائي، كل شيء في الحقيقة هو
منظم ومرتبط بقوانين طبيعية صارمة ودقيقة يسير عليها، فلا وجود لأحداث فوضوية أو
غير منضبطة". أي أن كل شيء مقدر تقديرًا غاية في الدقة والإحكام.
نظرية
تأثير الفراشة نفسها، التي كان أول ظهور لها في قصة قصيرة للخيال العلمي للكاتب
رأى برادبورى عام 1952م، اشتهرت هذه القصة بفضل أبحاث العالم الأمريكي
"لورنز" كما ذكرنا، وتنص النظرية على أنه "إذا قامت فراشة بهز
جناحيها على حافة المياه في "الصين"، فإنها قد تتسبب في وقوع أعاصير في
"البرازيل" أو في جزر الكاريبي" التفسير المنطقي للنظرية هو:
"أي فعل رغم ما يبدو من بساطته في الظاهر، فإن له تأثيرًا قد يتطور هذا
التأثير تطورًا هائلًا غير متوقع".
نظرية
رفرفة جناح الفراشة على المستوى الاجتماعي أو الاقتصادي تستطيع بدون أدنى عناء
ملاحظته، سواء بقراءة التاريخ الحديث أو القديم.
مقتل
ولي عهد النمسا في سراييفو أدى إلى نشوب حرب عالمية أولى، وبعدها حرب عالمية ثانية
أدت لمقتل 2% من سكان العالم.
وما
الأمر منا ببعيد، فتلك الشرطية التي صفعت الشاب التونسي البوعزيزي ما كان أحد
يتوقع أن هذه الصفعة ستتسبب في تغيرات جذرية في المنطقة كلها. إن كان كثير من
المؤرخين يعتبرون أن سرد وقائع كهذه هو نوع من الاستخفاف والسطحية، فالحرب
العالمية الأولى وتوأمها الحرب العالمية الثانية قد نشبت لأسباب تتعلق بقوميات
وعصبيات وسباقات من أجل المستعمرات، وتكوين تحالفات عسكرية أعمق بكثير من حادثة
ولي عهد النمسا، ولكن تبقى هذه الحادثة هي الشرارة الأولى التى أشعلت فتيل حربين
مدمرتين، وكذلك ثورات الربيع العربي إنما اشتعلت بسبب الظلم والتهميش الذي عايشه،
وما زالوا يعايشونه، أبناء هذه المنطقة، وما كانت صفعة البوعزيزي إلا كلمة في فصل
من كتاب الثورات.
إذا كنت ترى أن التغيرات الطفيفة على المستوى
الاقتصادي والسياسي غير جزمية القطع في إحداث تغيرات كبيرة، فإنني أستطيع أن أؤكد
لك أن هذه التغيرات الصغيرة على مستوى الذرات والجزيئات واضحة وضوح الشمس في
قدرتها على إحداث تغيرات عظيمة الشأن. ليس الأمر عصيَّ الفهم، على الباحث العلمي
إدراك أن تغيرات صغيرة ومتناهية الصغر يمكن أن تؤدي إلى تغيرات، بل طفرات عظيمة
الأثر. على سبيل المثال: انتقال إلكترون من مدار إلى مدار آخر قد يتسبب في حدوث
تفاعل جديد، ونشوء مركبات جديدة، وتغيرات لا حصر لها، وخصوصًا إذا اجتمعت العوامل
المساعدة لذلك. ودارس الرياضيات يعلم جيِّدًا أن رقمًا مهملًا في بداية المعادلة
يمكن أن يقلب النتائج رأسًا على عقب.
هذا
الاستنتاج لا يحتاج إلى كثير برهان للتدليل عليه، وما تجربة العالم الأمريكي
إدوارد لورنز منا ببعيد، والتي أدت لظهور نظرية جناح الفراشة أثناء عمله في برنامج
التنبؤ بالطقس، وإهماله رقمًا صغيرًا للغاية أدى في النهاية إلى تحولات عظيمة.
عالم
الفيزياء النظرية المعروف "ستيفن هوكينج" ووفقًا لحسابات قام بها يقول:
إن الكون من حولنا على وشك الانهيار؛ وقد أثبت فيزيائيون معاصرون حسابات هوكينج،
حتى إن البروفيسور في كامبريدج "بنيامين ألانك" يقول: إن المسئول عن ذلك
هو جسيم تحت ذري لا يمكن رؤيته يسمى هيجز بوزون كتلتة 126 ألف جيجا إلكترون فولت،
وهذا الجسيم هو المسئول عن عدم الاستقرار الحادث ، ويمكن أن يستقر الكون إذا أصبحت
كتلة الهيجز بوزون هذا 127 ألف جيجا إلكترون فولت؛ هذا الجسيم هو المسئول عن إعطاء
صفة الكتلة لكل الموجودات، فبدونه لا وجود للكتلة من الأساس، نعم الفرق ألف جيجا
إلكترون فولت فقط ما بين استقرار الكون وعدم استقراره، بل وانهياره كاملًا. إن
علماء الفيزياء لا يعرفون على وجه الدقة ما الذي يمكنه دفع كتلة الهيجز بوزون
لتصبح 127 ألف بدلًا من 126 ألف. من الممكن مستقبلًا عند الوصول للقانون الواحد
الذي يحكم الكون، وعن طريق دمج علم النفس (الباراسيكولوجي) ومحاولة فهم قوانينه،
عندها فقط يمكننا فهم سبب استقرار أو عدم استقرار الكون.
في
السطور القادمة سنحاول اكتشاف قدرة النفس البشرية، ومساهمتها في استقرار الكون من
خلال تحليل اللفظ القرآني لعلنا نكون السابقين في هذه المعرفة، وتوجيه الباحثين
نحوها. سنتعرف في السطور القادمة كيف يمكن لسلوك منحرف غير منسجم مع الكون ومنافٍ
للفطرة أن يتسبب في انهيار المنظومة الكونية ككل.
قدر كل شيء تقديرًا
لا
يحتاج القارئُ لكتاب الله كثير جهد لإدراك ما تنص عليه نظرية تأثير جناح الفراشة،
ونتيجتها نظرية الفوضى "لا وجود لشيء عشوائي، كل شيء في الحقيقة هو منظم
مرتبط بقوانين طبيعية صارمة ودقيقة يسير عليها، فلا وجود لأحداث فوضوية أو غير
منضبطة"
يخبرنا
كتاب الله أن التأثيرات الصغيرة مهما تناهت في الصغر فهي مسجلة ومدونة في كتاب،
وكما أفردنا سابقًا فإن معنى كلمة كتاب تعني كل الأمور المتعلقة بالشيء، والعلاقات
التي ترتبط بهذا الشيء، فمهما كان الشيء صغيرًا أو كان بالنسبة لك مهملًا فإنه
مدونٌ في كتاب، وليس هذا فحسب، بل إن علاقات هذا التأثير بما يسبقه وبما يليه
مدونٌ ومسجلٌ بقوانين صارمة: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ
قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ
لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي
الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ
مُّبِينٍ﴾ (سورة سبـأ الآية :3).
﴿وَمَا يَعْزُبُ عَن
رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا
أَصْغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ (سورة يونس الآية :61).
ثم إن
الله سبحانه وتعالى يخبرنا أن كل شيء خلقه بقدر أي بمقدار وحساب، لا شيء فوضوي أو
عبثي ﴿إنَّا كلَّ شيٍء خَلَقْناهُ بِقَدَر﴾ (سورة القمر الآية :49) .
﴿الَّذِي
لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن
لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ (سورة الفرقان الآية :2)
﴿اللَّهُ
يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ
وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ﴾ (سورة القمر الآية :8). للأسف الشديد يتعامل الناس مع لفظ القدرة ومعناها ومدلولها الرياضي
على أن أفعال الخالق لا تُبرر، وهذا الفهم هو خلاف ما يشير إليه كتاب الله. عادة
ما يستخدم الناس لفظ الله قادر على كل شيء في مواجهة من يحاول فهم أسباب الخلق
وتدبر الآيات الكونية، في سياق الأسباب والقوانين بهدف إقامة الحجة عليه وإثنائه
عن تناول وفهم الأسباب والمقادير التي خلق الله بها الأشياء. ستلاحظ هذا التوجه
العام لدى الكثيريين بمجرد أن تطرح فكرة أن الآيات الخارقة للعادة لا بد أن تتبع القوانين والأسباب تصديقًا لقول
الله سبحانه ﴿إنَّا كلَّ شَيءٍ خلقناه بَقدرٍ﴾ (سورة القمر الآية :49).
الاعتقاد
السائد لدى هؤلاء القوم أن طرحًا كهذا هو مفسدة عظيمة؛ إذ يشكك الناس في دين الله
ويجعل دين الله في مواجهة صريحة مع العلم. لا ينظر هؤلاء للقرآن بما يستحق، وأنه
يحوي كنوزًا معرفية لا حصر لها، ومن أجل الوقوف على هذه الكنوز لا بد من طرح الأسئلة بشكل غزير، وإتاحة الحرية
للفكر بشكل كامل، انطلاقًا من اليقين بأن كلام الله هو الحقيقة المطلقة، وكل ما
سواه يحتمل الصواب ويحتمل الخطأ. لا يعقل أن من أجل حفنة من المتذبذبين وخوفًا على
هؤلاء المراهقين فكريًّا، أن ندع كتاب الله ولا نحاول تدبره بكل الطرق الممكنة،
وطرح الأسئلة عليه دون تحفظ. أمن أجل أن نحافظ على البناء الفكري الهش لمجموعة من
الكسالى نضع كتاب الله على الرف، ونكتب عليه ممنوع الاقتراب، ممنوع السؤال، ممنوع
أن تخرج عمَّا قاله السابقون. هل نتبع ما يقول الله من التدبر والتعقل والسير
والنظر، أم نتبع الأوصياء والوكلاء. يصر الأوصياء والوكلاء على أن الله قادر على
كل شيء ويفعل ما يشاء، فلا يحق لك السؤال، بينما يحث رب العالمين الخلق على الوقوف
والتدبر وفهم الآيات، وأكبر دليل على ذلك هو لفظ قدر الذي يذكره ربنا عند الحديث
عن الخلق والأفعال، وهو يعنى التقديرات والحسابات والتعليمات والقوانين، ولا يعني
أفعالًا غير مبررة كما يعتقد هؤلاء. مدلول كلمة قدر في كتاب الله لها بعد فيزيائي،
وبعد رياضي، يحتاج لعقول جبارة لفهمه وتخيله، بينما مدلول الكلمة لدى الكثيرين
مرادف للفعل غير المبرر، وهو أقرب للسحر والشعوذة منه للتقدير وحسن التدبير.
الإنسان و الطبيعة
توجد
أربع قوى معروفة حتى الآن، هي التي تؤثر في كل مكونات الكون، بما في ذلك الإنسان،
وهو جزء من هذا الكون يؤثر فيه ويتأثر به. تلك القوى الأربع؛ هي قوى الجاذبية،
القوى الكهرومغناطيسية، القوى النووية (قوى نووية كبرى)، القوى الإشعاعية (قوى
نووية صغرى).
قوى الجاذبية :
إنها
القوى الأضعف من بين الأربع قوى الأخرى، ومع ذلك فلها التأثير الأعظم في هذا
الكون. قوى الجاذبية هي القوى الأكثر انتشارًا، فكل مكونات الكون بداية من الأجرام
السماوية، وحتى القلم الذي تمسكه الآن والأوراق التي أمامك ،يوجد بينهما قوة
جاذبية بقدر ما. إننا لا نلاحظ قوى الجاذبية بين الأشياء الصغيرة بسبب تأثيرها
الصغير جدًّا، الذي يكاد يكون مهملًا، ولكننا نلاحظ تأثير الجاذبية الأرضية لأنها
حالة خاصة، وبسببها أصبح لنا ولكل الموجودات على سطح الأرض ما يعرف بالوزن، إذ
الوزن هو قوة جذب الأرض للجسم.
القوى الكهرومغناطيسية:
هي
القوى الموجودة بين الأجسام المشحونة، والمثال الأوضح هو القوة التي تربط بين
الإلكترونات سالبة الشحنة في النواة والبروتونات موجبة الشحنة. تعد القوة
الكهرومغناطيسية أكبر من قوى الجاذبية بمقدار 10 مرفوعًا للقوة 36 أي 10 أمامها 36 صفرًا، وهذا يوضح لك كم هي
ضعيفة قوة الجاذبية. لو افترضنا أن مغناطيسًا معلقًا بسقف، وقطعة من المعدن منجذبة
للمغناطيس، وملتصقة بالمغناطيس؛ لك أن تتخيل أن قطعة المعدن هذه تتعرض لثلاث قوى؛
هي قوة الجاذبية الأرضية، التي تجذب قطعة المعدن لأسفل، وقوى الجاذبية بين جسم
المغناطيس وقطعة المعدن، وهي قوى تقريبًا تأثيرها مهمل، وقوى مغناطيسية بين
المغناطيس وقطعة المعدن، وهي ما تمنع قطعة المعدن من السقوط باتجاه الأرض. القوى
المغناطيسية الناتجة عن هذا المغناطيس الصغير تفوقت على قوى الجاذبية الناتجة عن
الأرض بحجمها المهول، وهذا ببساطة الفرق بين القوى الكهرومغناطيسية وقوى الجاذبية.
القوى النووية:
القوى
النووية هي القوى الموجودة بالنواة، وهي المسؤولة عن بقاء مكونات النواة متماسكة
ومترابطة، وهي قوة كبيرة جدًّا مقارنة بقوى التجاذب الكهرومغناطيسي، أو قوى
الجاذبية. ومن البديهي أن تكون القوى النووية أكبر بكثير من قوى الجاذبية، والقوى
الكهرومغناطيسية، لتتمكن من حفظ مكونات النواة وبقاء المادة، ولو أن أيًّا من
القوى الأخرى أكبر من القوى النووية لتناثرت مكونات النواة، ولا كان هناك كونٌ من
الأساس. إننا بالطبع لا نشعر بالقوى النووية لأنها قوى محدودة بالحيز النووي، أي
داخل النواة، يمكن أن تشعر بالقوة النووية إذا تمكنا فقط من إخراج هذه القوة من
النواة إلى الحيز الملموس، كما في حالة نواة ذرة اليورانيوم، التي نتج عنها الطاقة
النووية الرهيبة التي تستخدم في الحرب والسلم حالياً؛ إن نصف كيلو جرام من
اليورانيوم كوقود يعادل 250 ألف لتر من الوقود السائل.
القوى الإشعاعية:
هي
القوة المسئولة عن الإشعاع في الذرة، وهي أقل من القوة النووية، ولكن أكبر من قوى
الجاذبية بمقدار 10 مرفوعة لقوة 25. وأبسط مثال على القوى الإشعاعية هي تفكك
النيوترون متعادل الشحنة داخل النواة، لكي يعطى بروتونًا موجب الشحنة يبقى
بالنواة، وينطلق إلكترون سالب الشحنة وجسيم آخر يدعى نيوترون مضاد في صورة إشعاع.
هذه هي
الأربع صور المعروفة للقوى الموجودة بالكون، قد يكون هناك قوة خامسة من غير
المعروف نطاق عملها بالضبط، قد تكون النفس البشرية هي مركزها، ومن ثم يمكن من خلال
هذه القوة فهم قدرات النفس غير المرئية أو ما يسميها علماء الباراسيكولوجي قدرات
النفس الخارقة. ليس هناك أي دليل علمي حتى الآن على وجود هذه القوة الخامسة، ولا
نستطيع الجزم بوجودها، ولا نستطيع بنفس الوقت الجزم بعدم وجودها. وربما اكتشاف هذا
النوع من القوى، والذي يعمل في إطار النفس البشرية قد يكون مفتاحًا لفهم كثير من
سلوك النفس البشرية وتفاعلها وترابطها، وعلاقتها مع محيطيها. إلى أن يأتي هذا
اليوم، دعونا نلقي الضوء بشيء من التركيز على القوى الكهرومغناطيسية بسبب انتشارها
الكثيف، وترابطها الفريد، ومصادرها المتعددة، وسبب آخر مهم وهو المجال
الكهرومغناطيسي لأعضاء جسم الإنسان، وتأثره وتأثيره في المجال حوله. لعلنا بإلقاء
الضوء على القوة الكهرومغناطيسية يمكن أن نقترب قليلًا من فهم السلوك النفسي، وكيف
يمكن أن يؤثر في الكون من حوله. من أجل فهم هذه القوى لا بد أن نلقي الضوء على
المجال المغناطيسي للأرض: نشوئه، وكيفية عمله، ومدى ارتباطه بمكونات الكون الأخرى.
المجال المغناطيسي للأرض
تموج
الأرض بشحنات كهرومغناطيسية، وهذه الموجات لها تفسيرات عديدة من حيث المنشأ. أغلب
التفسيرات يعود بنشأة تلك الشحنات إلى المعادن، ومصهور تلك المعادن في باطن الأرض،
أضف إلى ذلك دوران الأرض، سواء حول محورها أو حول الشمس، مما يعد سببًا رئيسيًّا
لهذه الشحنات.
اللافت
للنظر، اكتشاف العلماء أن حوالي 3% من المجال المغناطيسي في باطن الأرض لا يعود
بالأصل إلى عوامل داخلية، بل يرجع إلى حركة التيارات الكهربية في الغلاف الجوي،
وبالتحديد في منطقة تسمى طبقة الأيونوسفير.
هذا
بالضبط ما فرضه نيكولا تسلا في نظريته "أن الأرض بها شبكة طبيعية، من الموجات
الكهربائية ذات تردد منخفض جدًّا؛ إذ يمكن اعتبار هذه الشبكة من الموجات
الكهربائية قنوات اتصال بين كل مظاهر الحياة على سطح الأرض، يشمل ذلك حركة الرياح
والمد والجزر، بالإضافة إلى تحركات الألواح التكتونية (المسبب الرئيسي للزلازل) ".
يفترض
تسلا أنه إذا أمكن توليد موجات كهربائية بكثافة ذات تردد منخفض، وأمكن التحكم في
هذه الموجات الكهربائية فإنه يمكن التحكم في الشبكة الكهربية ككل، وهذا يعني
التحكم في مظاهر الحياة، مثل حركة الرياح، والأمطار، وحركة الصفائح التكتونية،
والجاذبية، وتغير درجات الحرارة وغيرها من مقومات الحياة على هذا الكوكب؛ وبالتالي
فإن أي خلل في إحدى الشبكات الكهربية، سيتبعه خلل مصاحب في الشبكة الأخرى. من
الواضح أن الكل مركبٌ تركيبًا طبقيًّا، وملتف على بعضه، فلا يمكن اعتبار أي مكون
من مكونات هذا الكون مستقلًا، أو غير
مرتبط بالمكونات الأخرى.
المجال
المغناطيسي في جسم الإنسان وتأثيره على المحيط حوله
الخلايا
في جسم الكائن الحي عبارة عن مولدات مغناطيسية صغيرة، وجسم الكائن الحي يتكون من
ترليونات الخلايا الحية. تتم عملية تبادل الموجات الكهرومغناطيسية بين أعضاء
وأجهزة الجسم الحي بسرعة وديناميكية متناهية في الدقة، تمكن أجهزة الجسم من
التواصل مع بعضه بعضًا، والعمل بكفاءة عالية.
من
المعلوم أن المحصلة النهائية لشحنات الجسم متعادلة، مما يسبب حالة من التوازن
البيولوجي؛ وقد أثبت العلم أن هناك مجالات مغناطيسية تنبعث من مختلف الأعضاء،
كالقلب، والعضلات، والأعصاب، والدماغ، وأن هذه المجالات المغناطيسية ذات طبيعة
متغيرة. عند قياس قيمة المجال المغناطيسي للقلب وجد أنه يساوي مليون جاوس (الجاوس
هو وحدة شدة الفيض، أو الحث المغناطيسي في نظام وحدات سنتيمتر
جرام ثانية). توجد وحدة قياس كبيرة للمغناطيسية الكهربائية، وتستعمل كثيرًا في
مجال التكنولوجيا، وهي التسلا. وحدة التسلا: هي الوحدة المعتمدة من قبل النظام
الدولي للوحدات (نظام وحدات متر كيلوجرام ثانية). ووحدة التسلا = 10.000
جاوس). إذا كان المجال المغناطيسي للقلب يساوي مليون جاوس، فإن العضلات تنتج في
حالة التقلص مجالًامغناطيسيًّا بقيمة عشرة ملايين جاوس، أما في حالة الدماغ فقد
وجد أن أعلى قيمة للمجال المغناطيسي تكون أثناء النوم، وبلغت 300 مليون جاوس في
الحالات الطبيعية، ولكن في بعض الحالات المرضية فإن الدماغ يستطيع أن ينتج قيمة
أعلى من ذلك، خلال حالات معينة مثل حالات الصرع.
لجسم
الإنسان مجال مغناطيسي لا شك في ذلك، وسنحاول في الأسطر التالية التعرف على
إمكانية تَأثر هذا المجال المغناطيسي بالحالة النفسية، وبالتالي سلوك الإنسان،
الذي يعد بشكل أو بآخر انعكاسًا للحالة النفسية.
التوتر
على سبيل المثال أو الغضب قد يسبب ارتباكًا في السلوك، ويؤدي إلى تصرفات غير
منضبطة، مثل الكذب، والعكس بالعكس. الحالة النفسية أيضًا هي انعكاس للسلوك
والتصرف، فسلوك مثل الكذب أو النفاق قد يسبب ارتباكًا في الحالة النفسية، وتوترًا
لا يمكن تجاهله.
تأثير المجال المغناطيسي على سلوك الإنسان ومزاجه
الدماغ
البشري له القدرة على إرسال واستقبال الموجات الكهرومغناطيسية، وقد اختلف العلماء
في تحديد المركز المسئول عن الاستقبال والإرسال، غير أن كثيرًا من الدراسات
والترجيحات تشير إلى أن الغدة الصنوبرية الموجودة خلف الأذن، والتي من مسئوليتها
إفراز هرمون الميلاتونين السحري المسئول عن إصلاح العطب في الخلايا وترميم التالف،
هي المسئولة عن إرسال واستقبال الموجات الكهرومغناطيسية.
يعتقد
أن هذه الغدة مسئولة عن الظواهر النفسية الخارقة، مثل توارد الخواطر، أو استشفاف
المستقبل، والإحساس والشعور عن بعد. وجود الغدة الصنوبرية خلف عظام الجمجمة يجعل
من الصعب وصول الضوء إليها، وهي تنشط في إفراز الميلاتونين في الظلام تبعًا للساعة
البيولوجية للإنسان. هذه الغدة تتأثر بالأشعة الكهرومغناطيسية، ويعتقد العلماء
أنها مسئولة عن استقبال الموجات الكهرومغناطيسية من أدمغة الآخرين، إذ يمكن عن
طريقها التواصل مع الأدمغة الأخرى عن بعد.
لا شك
أن الأمر يختلف من شخص لآخر، ولا يمكن أن يكون هذا التواصل بنفس قدر التواصل
المباشر، ولكن كثيرًا من الظواهر والمشاهدات تؤكد ذلك التصور.
يقول
ديكارت عن الغدة الصنوبرية إنها: "الجهاز الذي ينسق العمل بين الروح
والجسد" ويدعوها فلاسفة الهند "بأنها العين الثالثة".
يقول
عنها بعض المتصوفة أنها "تعظم وتكبر بكثرة التأمل والسجود، وتذبل وتضمر
بكثرة الترف والبعد عن الله".
إن كان
هناك إشارات كبيرة إلى دور العقل والغدة الصنوبرية في استقبال وإرسال الموجات
الكهرومغناطيسية، فلا يمكن أبدًا إغفال دور القلب، الذي تعتقد كثيرٌ من الأبحاث
أنه مصدر الإحساس والشعور، وأنه يحتوي على ذاكرة ومراكز إحساس عالية جدًّا.
أعتقد أن القلب هو حجر الأساس في السلوك بسبب
التجارب العلمية من ناحية، وخصوصًا أن الدراسات تشير إلى أن قدرات الباراسيكولوجي،
أو ما يعرف بالساي (القدرات الخارقة للنفس) والتي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بسلوك
الإنسان لا تتأثر بالمرض العقلي، مما يرجح دور القلب المحوري في مسألة السلوك
النفسي. تجارب عديدة كما سنرى ترجح أن القلب هو مركز الإحساس والشعور، وهو أيضًا
مركز تفاعل هذه الأحاسيس والمشاعر، وما ينتج عنها من سلوك. لا شك أن الاتجاه
العلمي السائد يرجح دور العقل في التواصل والتصرف النفسي، ويهمل إلى حد كبير دور
القلب.
اعتمادًا على بعض المشاهدات والتجارب العلمية
والدرسات من ناحية، وغزارة ذكر القلب في كتاب الله من ناحية أخرى كمركز للإدراك
والحس والشعور والتعقل، يعطينا دفعة للقول بأن هذا العضو المهم هو الركيزة
الأساسية في فهم تأثير السلوك الإنساني على محيطه، ولعله هو حلقة الوصل بين
الإنسان وبين جميع مكونات الكون.
يبرز
سؤال هام ونقاش حاد سواء في الأوساط العلمية، أو حتى من خلال رؤية بعض "رجال
الدين" لدور العقل ودور القلب في الاتصال بالمحيط الخارجي، وكأنهما كيانان
منفصلان تمامًا. قد يكون نقاش كهذا له وجاهته في القديم، ولكن مع ازدياد المعارف،
وتكشف مزيد من العلاقات التي تربط الأشياء بعضها ببعض، أصبح مثل هذا الجدال لا
يوجد له ما يبرره، وخصوصًا في ظل وجهة النظر التي تؤيد النسيج الكوني الملتف بعضه
على بعض. يبدو أن الحدود بين العقل والقلب أيضًا تكاد أن تتلاشى ولا يمكن فهم
إحداهما بمعزل عن الأخر.
عندما
يتحدث رجال الدين، وخصوصًا المتصوفة منهم، عن دور العقل ودور القلب في الإيمان
يبدو طرح مثل هذا السؤال بدائيًّا، حيث ينظر للكون وللإنسان على أن مكوناته جزر
منعزلة عن بعضها بعضًا؛ بينما الحقيقة أن النسيج الكوني أو النسيج الإنساني أعقد
من ذلك بكثير. طرح كهذا يشبه إلى حد كبير السؤال عن قيادة السيارة، وهل تتم عن
طريق العقل أو القلب أو اليدين أو النظر أو الرجلين أو السمع. بالطبع تحديد العضو
المسئول عن القيادة بشكل منفصل هو تصور غير كامل، ولكن الأدق هو التعامل مع هذه
الأعضاء والأجهزة بشكل أشمل وأعمق، وفهم العلاقات بين بعضها بعضًا.
القلب من وجهة النظر العلمية
لو
تتبعنا بعض الأبحاث عن القلب، ودوره المحوري في حياة الإنسان وعلاقته بعدة
متغيرات، فسوف نكتشف دور هذا العضو الساحر، وتأثيره المباشر على السلوك والتصرف.
على الجانب الآخر غزارة ذكر القلب في كتاب الله إشارة واضحة إلى أنه مركز مهم
جدًّا، فى الإحساس والشعور، وكيف أن السلوك والتصرف يؤثر فيه تأثيرًا واضحًا، وكيف
ينتقل هذا التأثير إلى محيطه.
نبدأ
من جامعة هاواي والباحث "بول بيرسال"، الذي قام بتتبع حالات نقل القلب
لأفراد استطاعوا بفضل زراعة هذا العضو من الحياة، ولكن بأنماط مختلفة تشابهت مع
المتبرعين (أصحاب القلب الأصلي). للدكتور "بول بيرسال" أبحاثٌ عديدة
وتجارب شتى صاغها في كتابه شفرة القلب The Heart's Code” Paul Pearsall.
خلص
بيرسال من مجموع أبحاثه وتجاربه إلى أن القلب له القدرة على الإحساس والتذكر،
والأغرب أن له القدرة على إرسال ذبذبات تمكنه من التفاهم مع القلوب الأخرى. لقد
أورد الكاتب قصصًا كثيرة في كتابه عن أحوال أولئك، الذين نُقِلت قلوب لهم، وكيف
أنهم عاشوا جزءًا من ذكريات المتبرعين.
واحدة
من تلك القصص لشاب صغير توفي في حادث سيارة كان عمره 18 عامًا، نُقل قلبه إلى فتاة
في نفس العمر تقريباً، وقد كان هذا الشاب يكتب الشعر ويلعب الموسيقى ويغني؛ وفي
مقابلة للفتاة مع والدي الشاب المتبرع قامت الفتاة بعزف قطعة موسيقية كان ابنهم
يعزفها أمامهم، وأكملت كلمات أغنية كان الابن يرددها رغم أن الفتاة لم تسمع
الأغنية قبل ذلك.
على
الجانب الآخر، قصة لشخص زُرِع قلب صناعي له، وبعد نجاح العملية يقول هذا الشخص إن
مشاعره قد تغيرت، فلم يعد يشعر أو يحس كما كان من قبل، وأنه لا يشعر تجاه أحفاده
بنفس الشعور السابق.
فى
سياق متصل فإن أبحاثًا أجريت في معهد رياضيات القلب الأمريكي، برهنت على أن القلب
يملك مجالًا كهربيًّا قويًّا يؤثر على من حولنا من الأشخاص، وهذا ما يطلق عليه
قدرة الإنسان على التواصل مع غيره عن طريق قلبه دون اتصال تقليدي عن طريق الكلام.
الأمر
ذهب أبعد من ذلك، ولم يعد قاصرًا على التأثير المتبادل للإنسان؛ فقد تعداه
للكائنات الحية الأخرى مثل النبات. هناك أبحاث تجرى حاليًا للتعرف على كيفية تعامل
الأشجار مع الإنسان من خلال مجالهم الحيوي؛ لا شك أن أبحاثًا كهذه لها دلالات
واضحة على تأثير، وتَأثر المجال المغناطيسي الصادر عن القلب بالبيئة المحيطة.
لم يعد
التصور الساذج عن القلب أنه عضو عضلي مجوف فقط، مقبولًا دون الأخذ بعين الاعتبار
التأثير الواضح لهذا القلب في محيطه وتأثره بهذا المحيط. من الواضح أن القلب مركز
مهم للشعور والإحساس والذاكرة، وهناك تواصل بينه وبين الوسط المحيط من خلال
التجارب والمشاهدات التي أجراها كثير من الباحثين.
هل تشعر عندما تقوم بتصرف خاطئ
بتوتر ؟ وهل تشعر عندما تقوم بسلوك قويم بارتياح ما؟
لو
حاولنا فهم الإحساس والشعور من خلال عملية رياضية أو فيزيائية؛ يمكننا وصف حالة
مثل التوتر على سبيل المثال بأنه خلل في نظام الموجات الكهرومغناطيسية، أو عدم
توافق الموجات الصادرة عن القلب مع محيطه. على العكس من ذلك فإن شعورًا ما
بالارتياح لا يمكن تفسيره إلا من خلال تآلُف وتوافق الموجات الصادرة عن القلب مع
الموجات في محيطها. من خلال فهم العلاقة بين الموجات الكهرومغناطيسية بين الكائن
الحي بصفة عامة والأرض كأحد مكونات الكون الرئيسية، يمكننا فهم هذا الافتراض
بالعلاقة بين القلب والبيئة.
العلاقة بين الموجات الكهرومغناطيسية في جسم الكائن الحي والموجات في
باطن الأرض والكون.
من أجل
فهم أكثر شمولًا للتأثيرات المتبادلة بين القلب في جوف الإنسان من جهة، والكون
المحيط من جهة أخرى، كان لا بد من نظرة على العلاقة بين الموجات الكهرومغناطيسية
في الجسم الكائن الحي وبين الموجات الكهرومغناطيسية للأرض، وبالتالي مع الكون
أجمع.
إذا
علمنا أن هناك بعض الكائنات الحية، مثل بعض السلاحف البحرية، والطيور، والفراشات،
لها القدرة على استشعار المجال المغناطيسي للأرض، واستخدامه بحرفية رائعة للتوجيه
دون الاعتماد على الشمس خلال هجرتها؛ لاتضح لنا الكثير من العلاقة الوثيقة بين
المجال الكهرومغناطيسي في أجسام الكائن الحي، والمجال الكهرومغناطيسي في باطن
الأرض.
في
دراسة قامت بها كلية الطب في ولاية ماساتشوسيتس الأمريكية على نوع من الفراشات
يسمى الفراشات الملكية، وجدوا أن تلك الفراشات تسافر أكثر من 3000 كيلو متر، من
أنحاء متفرقة من شرق الولايات المتحدة إلى بقعة محددة في المكسيك، وفي هجرة متكررة
لأسلافها. تحدث هذه الهجرة بانتظام رُغم أن كل جيل من الفراشات لم يسلك هذا الطريق
من قبل، ولا يوجد ما يمكن اعتباره تقفي الأثر؛ لذا اقترح العلماء أن هناك برنامجًا
وراثيًّا هو المسئول عن هذا التوجية، مما يفسر سلوك هذه الفراشات؛ وقدرتها على
استشعار المجال المغناطيسي للأرض.
توصل
العلماء بالفعل إلى الجين الذي من خلاله يستطيع الكائن الحي استشعار المجال
المغناطيسي للأرض، وأطلقوا عليه اسم كرايبتوكروم، وقد وجد العلماء أن هذا الجين
موجود لدى جميع البشر، مما يثبت أن للإنسان القدرة على استشعار المجال المغناطيسي
للأرض، واستشعار المجال المغناطيسي معناه بكل بساطة أن هناك ارتباطًا بين
المجالين.
لقد
ذهب علماء كُثر إلى فرضية أن الكون جميعه متكيف ومتطابق ويسير في نظام تام
الانسجام مع بعضه بعضًا؛ فيقول "كلود بؤنار" الطبيب المشهور في كتابه
مدخل لدراسة الطب التجريبي: " إن الكائن الحي لا يشكل استثناء من التناغم
الطبيعي الكبير مع القوى الكونية، فهو يتكيف معها ولا يكسر التوافق، ولا يتناقض
أبدًا مع القوى الكونية، بل على العكس هو جزء من السيمفونية الكونية، وليست حياته
إلا جزءًا من هذا التناغم".
أكد
"باستور" نفس المعنى عندما قال إن جميع أشكال الحياة في بنيتها وشكلها
واستعدادها وأنسجتها على علاقة وثيقة بحركة الكون.
لقد
أثبت العلم الحديث أنه لا يوجد شيء فوضوي أو عبثي، فكل ما في الطبيعة له دور معين
بتقدير محسوب يؤديه متأثرًا بما حوله ومؤثرًا فيه؛ لتكتمل معزوفة الطبيعة الكونية،
والإنسان جزء أصيل من هذا الكون يتفاعل مع مكونات الكون تفاعلًا نفسيًّا
وبيولوجيًّا لا يمكن إهماله أو إغفاله.
إذا
أردنا أن نضرب مثلًا واضحًا لتأثير مكون كوني على الإنسان، فلن نجد مثالًا أكثر
وضوحًا من تأثير القمر، فقد درس "ليونارد رافيتز" طبيب علم النفس، تأثير
تحولات القمر على المرضى النفسيين، فقد قام بقياس الجهد الكهربي بين الرأس والصدر
عند المرضى النفسيين. لاحظ رافيتز أن الفرق في الجهد يتبدل من يوم لآخر متوافقًا
تمامًا مع تحولات القمر وأطواره، وقد انتهى الباحث إلى أنه لا يوجد تأثير مباشر
للقمر على سلوك الإنسان، ولكنه يستطيع عن طريق تغيير نسب الكهرومغناطيسية في الكون
إحداث كوارث عند الأشخاص غير المتزنين.
عرضت
مجلة أمريكية عام 1972م في جامعة ميامي الأمريكية، وهي مجلة متخصصة في علم النفس،
دراسة تستند إلى تجارب إحصائية تثبت أن للقمر دورًا في تحول المزاج لدى الإنسان
المصاب باضطراب في السلوك، ودور القمر يشبه إلى حد كبير دوره في عملية المد والجزر
التي يتسبب فيها في مياه البحار والمحيطات؛ إذ إن نسبة الماء في جسم الإنسان
تقريبًا تماثل نسبة الماء على الأرض، فيمكن الحديث هنا عن مد وجزر حيوي يحدث في
جسم الإنسان عن طريق تأثير جاذبية القمر.
على
الجانب الآخر توجد أبحاث معتبرة تحدثت عن تأثير الشمس على سلوك الإنسان، فقد درس
عالم علم النفس الدنماركي دل Dull، حالات الانتحار ما بين عامي 1932 – 1971م
في كلٍّ من كوبنهاجن، وزيورخ، وبرلين، وفرانكفورت، فوجد أن عدد حالات الانتحار قد
زاد بشكلٍ واضح مع زيادة النشاط الشمسي بشكل مفاجئ، فقد ارتفعت نسبة الانتحار
بمقدار 8% في الأيام التي يزداد فيها النشاط الشمسي؛ وقد أرجع كثير من العلماء ذلك
إلى وجود اضطرابات في الجهاز العصبي نتيجة للتغيرات الكهربية التى أحدثتها
التغيرات الشمسية. بنفس القدر أكد الدكتور "مارتيني" مجريِّ الجنسية في
دراسته التي شملت 2240 حالة انتحار ومحاولة انتحار عام 1964م، أن هناك علاقة وطيدة
بين حالات الانتحار وزيادة النشاط الشمسي، وقد أكدت الدراسة أن فرصة كون النتيجة
محض صدفة يقل عن 1% . وفي نفس السياق أجرى الباحث دراسة أخرى حول حوادث السير في
بودابست بين عامي 1963 -1964م وشملت الدراسة معلومات عن 5479 حادثة سير، وقد وجد
أن العواصف الجيومغناطيسية المرتبطة بالشمس أدت إلى ارتفاع نسبة الحوادث بنسبة 101%
عن مثيلاتها في حالة غياب العواصف الجيومغناطيسية.
عزز
دراسات دل ومارتيني بحث منشور في المجلة العلمية الأكثر شهرة، وهي مجلة نيتشر Nature،
عن دراسة قام بها ثلاثة باحثين أمريكيين؛ لمحاولة فهم سلوك المرضى النفسيين، ومدى
تأثرها بالتحولات الجيوفيزيائية ذات المنشأ الشمسي. اتخذت الدراسة معيار دخول
المرضى النفسيين إلى المستشفيات نقطة البحث، بعد استبعاد وتحييد جميع العوامل التي
قد تؤثر سلبًا على الدراسة، مثل العوامل الاجتماعية والإدارية، وقاموا بدراسة
28642 حالة من تاريخ 1 يوليو 1957، وحتى 31 أكتوبر 1961م ، وقد لاحظوا أن عدد دخول
المرضى للمستشفيات يرتفع بشكل ملحوظ جدًّا في أيام العواصف المغناطيسية، مما يعتبر
دليلًا واضحًا على العلاقة بين الاضطراب النفسي وشدة حقل الأرض المغناطيسي؛
فالأشياء تحدث كما لو أن الأنظمة التي تحكم سلوك الإنسان تتأثر بحقول قوى خارجية.
إذا
كان الحقل المغناطيسي للبيئة المحيطة بالإنسان من شمس وقمر وأرض يؤثر في الإنسان،
فإنه من البديهي أن يكون هناك تأثير متبادل، أي أن المجال المغناطيسي للإنسان يؤثر
بدوره على الكون. عملية قياس وتتبع تأثير الكون على الإنسان عملية إلى حد ما
ممكنة؛ على عكس من ذلك فإن قياس تأثير الإنسان على الكون أمر شديد الصعوبة؛ بسبب
حجم الإنسان الضئيل للغاية مقارنة بالكون. لحسن الحظ هناك إشارات ودلائل على تأثير
الإنسان في البيئة المحيطة حوله، نستطيع من خلالها إدراك قدرة وإمكانية تأثير
المجال المغناطيسي للإنسان فيما حوله.
التأثير المادي للأفكار والنوايا
فكرة
تأثير الإنسان في الأشياء المادية من حوله هي فكرة قديمة قدم وجود الإنسان على
الأرض. تتمحور هذه الفكرة حول مدى قدرة أفكارنا، وحتى النوايا في التأثير
الفيزيائي في الموجودات حولنا. الانتقال من فكرة أن البشر مجرد متلقين ومستقبلين في
هذا الكون إلى مشاركين.. ومشاركين بقوة في إبداع هذا الكون.
استطاع
كثير من العلماء في معاهد بحثية عديدة، مثل جامعة برستون التوصل إلى أن قدرة العقل
على تحريك الأشياء المادية، التي يطلق عليها تليكنسيس Telekinesis وهي ظاهرة علمية يمكن قياسها و إخضاعها
للتجارب.
مكَّن
التقدم العلمي المذهل المجتمع البحثي، وبفضل استخدام أجهزة على درجة عالية من
التقدم، من البرهنة على أن الأفكار والنوايا يمكن أن تؤثر فيمن حولنا، سواء كان
جمادًا، أو كائنات حية، أو حتى يمكن للأفكار والنويا أن تؤثر في عقول الآخرين.
هيلموت
شميدت أحد فيزيائيِّ شركة بيونج العالمية، الذي حاول التحقق من تأثير العقل والوعي
الجمعي والنوايا على المحيط حولها، فقد قام باستخدام جهاز إلكتروني، يُمكِّنه من
إلقاء قطعة نقود بطريقة عشوائية ليحصل على نتيجة من اثنتين، إما كتابة أو الوجه
الآخر. فرص احتمال ظهور أحد الوجهين متساوية، إذا استمر الجهاز بالعمل وإلقاء قطعة
النقود، فإنه بعد عدد كبير من الرميات
سينتج عدد مرات الكتابة مساويًّا تمامًا لعدد مرات الوجه الآخر.
حتى
يتمكن الباحث من معرفة مدى تأثير الوعي الجمعي أو العقل على المادة؛ طُلب من
مجموعة من البشر التركيز في أحد الوجهين، وبعد أكثر من مليوني ونصف عملية امتدت
لأكثر من 25 عامًا في جامعة برستون، استنتج الباحثون أنه بإمكان العقل البشرى
التأثير في الآلات، وفي الاتجاه الذي يرغب العقل في التأثير فيه.
تجربة
أخرى أُجْرِيت بواسطة عالم علم النفس "روجر نيلسون"، فقد قام بوضع 50
جهازًا محركًا عشوائيًّا، ومن ثم سمح لهذه الأجهزة بالعمل المستمر وفي أماكن
مختلفة بالعالم. عند فحص النتائج اكتشف نيلسون أخطر ما يمكن تصوره، وهو أن أي ردة
فعل إنسانية عالمية، سواء الفرح أو الحزن، أو أي انفعال، يؤثر بشكل ملحوظ على
النتائج؛ بما يعني أن الشعور النفسي له تأثير ملحوظ على المادة.
الملاحظ
من خلال التجارب السابقة والمشاهدات المتعددة أنه لا يمكن للشعور أو الإحساس
النفسي أن يؤثر في شيء مادي بدون اتصال حقيقي بينهما، ولعل نظرية الأوتار الفائقة
التي ذكرتها في المقدمة يمكنها إلى حد ما تفسير هذا التأثير؛ إذ إنها تفرض شكلًا
جديدًا مغايرًا للنسيج الكوني واتصال مكوناته، ويتلاشى على حدود هذه النظرية
المادي في اللامادي.
تجربة
أخرى تعزز فكرة تأثير الأفكار في العالم المادي حولنا، أجريت في جامعة برستون
أيضًا بقيادة البروفيسور "روبرت جاهن" فقد قام بإجراء التجارب على قطعة
النقود مرة أخرى باستخدام أشخاص ليس لديهم أي قدرات خاصة، في أماكن مختلفة وليسوا
في نفس الغرفة، وليس هناك أي نوع من الوصلات الكهربية على رؤوسهم؛ وقد أظهرت
التجارب أنه بإمكانهم التأثير على النتائج بطريقة يصعب وصفها بالصدفة، إذ إن للصدف
احتمال إحصائي معين، فإذا فاقت النتائج احتمال الصدفة لم يعد مقبولًا وصف النتائج
بالصدفة.
المذهل
حقًّا في هذه التجارب تأثير الأفكار والنيات على الوسط المحيط، تلك النتائج التي
توصل إليها الباحثون من أنه إذا استخدم
أشخاص بينهم علاقة عاطفية (حب مثلًا) فإن التأثير يكون أقوى بكثير وبشكل ملحوظ؛
وقد دفعت هذه النتيجة أحد الباحثين، يدعى "دون"، إلى صياغة نظريته التي
تقول "إن عقل الإنسان الواعي يخلق نوعًا من الصدى، يقلل من عشوائية الوسط
المحيط".
إنه
بالضبط ما فرضناه من أن الإنسان، سواء افترض الباحث أن عقل الإنسان هو المسئول، أو
ما افترضنا من أن العضو الفعال هو القلب ينتج نوعًا من الموجات تؤثر تأثيرًا
ملحوظًا في الوسط المحيط. لا نستبعد أبدًا انتقال هذا التأثير لمكونات الكون
وتَأثُر هذه المكونات بهذا التأثير بشكل ما، حتى إن كان التأثير صغير جدًّا. يظل
الاحتمال قائمًا بوجود هذا التأثير. ولا يمكن تجاهله أو إنكاره؛ أما ماهية هذا
النوع من التأثير سواء كونه سلبيًّا أو إيجابيًّا فهو ما يعتمد على مدى توافق
أجهزة الإنسان، وما أعدت من أجله، ومدى توافق هذا السلوك مع الطبيعة من حوله،
والذي يعتمد بشكل أساسي على برنامج الإعداد الأصلي في جسم الإنسان، والذي بفضله
يصبح منسجمًا مع الطبيعية. الجميع في حالة انسجام وتناغم مع بعضه بعضًا لا مثيل
له، والإنسان جزء من هذه المنظومة، وهو الوحيد صاحب الإرادة الحرة؛ لذا يصبح عليه
أن يجد الطريقة المثلى للانسجام مع باقي مكونات الكون. إذا كانت كل مكونات الكون
تسير وتسبح في نظام منسجم فالمكون الوحيد الذي لا ينطبق عليه هذا القانون هو
الإنسان بسبب حرية الاختيار التي يتميز بها. لذا يبدو أن المهمة الأساسية لهذا
الإنسان على الأرض هي محاولة الانسجام مع مكونات الكون والتناغم معها لتكتمل
السيمفونية الكونية وتنتج أبدع ما يكون. يصبح هذا الانسجام وهذا التناغم أبدع ما
يكون ويؤتي ثماره، عندما يكون صادرًا عن إرادة حرة يصدقها القلب؛ بينما يصبح هذا
التناغم هشًّا للغاية وغير حقيقى إذا حدث عن طريق قهر الإنسان، وهو لن يحدث بسبب
مخالفة القهر قانون الطبيعة.
ماذا يمكن أن نستفيد بالتحكم في الأفكار والنيات؟
النية
هي عملية نفسية وعقلية تعكس رغبة صاحبها في فعل ما، وقد تكون هذه النية مصحوبة
ببعض الشحنات العاطفية التي يمكن أن تؤثر في محيطها بشكل فيزيائي. قامت الباحثة
لين مكتاجارت المولودة عام 1951م في مدينة نيويورك بإجراء أكبر تجربة على الإطلاق
لإثبات قدرة العقل البشري على التأثير الفيزيائي. شارك في هذه الدراسة علماء من
جامعات بنسلفانيا، كاليفورنيا، أريزونا، سان بطرسبرغ والمؤسسة الدولية
للبيوفيزياء. اعتمدت الدراسة على آلاف المتطوعين من 30 دولة حول العالم، فقد كان
بالإمكان التسجيل في الموقع الإلكتروني الخاص بالدراسة، ليتم بعد ذلك التواصل مع
المشتركين، وإرسال التعليمات لهم أولًا بأول. كانت الدراسة تتمحور حول هل للعقل
الجمعي تأثير فيزيائي ملموس إذا قام بالتركيز في أمر ما في نفس الوقت؟.
شملت
الدراسة عدة تجارب، منها التأثير على نمو النباتات وتغيير الخصائص الجزئية للمياه،
والكائنات الحية، وتنقية المياه الملوثة، وكذلك تجربة تخفيف مستويات العنف في
منطقة ملتهبة (منطقة تعاني من الحروب).
لقد
كانت التجارب مذهلة حقًّا، ورُغم أن بعض النتائج في بعض التجارب كانت غير كافية
لإصدار حكم علمي، إلا أن تجارب أخرى كانت قاطعة ومذهلة. أهم ما يمكن استنتاجه من
تلك التجارب هي نتيجة في غاية الأهمية، وهي أن حدود الزمان والمكان تكاد تتلاشى
أمام قدرات وقوة العقل البشري.
فى
تجربة لإثبات تأثير العقل الجمعي أو النية الجمعية على زيادة الانبعاثات الضوئية
لورقة نبات صغير، طُلب من المشاركين التركيز الذهني لجعل ورقة نبات تلمع ضوئيًّا،
و قِيس التغير الحادث وكانت النتيجة حقًّا مذهلة؛ فالورقة التي حصلت على التركيز
الذهني كان معدل الانبعاث الضوئي لها قويًّا لدرجة يمكن رؤيتها بوضوح، بعكس
الأوراق الأخرى التي لم تلقَ نفس التركيز الذهني.
فى
محاولة لمعرفة تأثير النية في تحقيق السلام أجرت الباحثة تجربة كان هدفها تقليل
معدل العنف في منطقة شمال سيريلانكا، فقد كانت وقتها تُعدُّ هذه المنطقة منطقة
حروب مشتعلة؛ نتيجة لحرب أهلية استمرت هناك لمدة ما يقرب من 25 عامًا. شارك في
التجربة عشرات الآلاف من المتطوعين من 65 دولة حول العالم، وكانت النتيجة كالتالي:
في الأسبوع الأول تصاعد العنف في المنطقة
المستهدفة بشكل غير مسبوق، ثم انخفض بشكل سريع جدًّا وغير متوقع في الأسبوع
التالي، ثم انتهى الصراع، ووقِّعت اتفاقية سلام دائمة في العام نفسه.
برغم
ذلك يقول الباحثون إننا بحاجة إلى مزيد من التجارب المماثلة، حتى نثبت صحة
التجربة، وإن كان ما حدث في سيرلانكا لا يمكن اعتباره مصادفة، ويمكن اعتباره نتيجة
لتجربة نوايا إحلال السلام.
كل
التغييرات السابقة إنما كانت عن طريق رغبة النفس في فعل أمر ما رغبة صادقة أي
بطريقة متعمدة ، فكل سلوك متعمد من الإنسان له إن صح التعبير؛ له كم مغناطيسي
يتفاعل مع المحيط حوله لا ينطبق عليه حدود الزمان أو المكان.
هذه
الأفكار والنيات مصدرها القلب برغم تصميم التجربة على أساس قوى العقل البشري، ولكن
بعض الإشارات الأخرى ترجح أن يكون المسئول عن هذه العمليات والنيات والصدق في
النية هو القلب. القلب صمم من قبل خالقه ليكون منسجمًا مع الطبيعة بأفكار ونيات
وسلوك قويم، فإذا انحرفت النيات وشذَّ السلوك بدرجة كبيرة قد يؤدي ذلك لطمس القلب ،
فيصبح معطلًا بالكامل لا يستقبل ولا يرسل، وبالتالي يختل لدى صاحبه ميزان المعرفة
والصواب. لماذا نرى أشخاصًا مقتنعين تمامًا بوجهة نظرهم رغم أنها وجهة نظر تحمل
كثيرًا من العدائية، وتبدو سيئة بشكل ملحوظ؟ لماذا يتشكل لدى الكثريين قناعة أنهم
على صواب برغم وجود شواهد عديدة أنهم في المنطقة الخطأ؟ لماذا يعتنق الإنسان
أفكارًا خاطئة، ويدافع عنها، وفي كثير من الأحيان يقاتل من أجلها، بل ويفقد حياته
ثمنًا لها؟ لا أقصد أصحاب المصالح، ومن يسعون خلف مكاسبهم فهؤلاء نمط آخر لسنا
معنيين به في هذا الفصل؛ إنما المقصود هنا الإنسان الذي يعتقد ويصدق ذلك، ومطمئن
لهذه الأفكار، ولا يجد أي غضاضة في اعتناقها؛ بل يرى مخالفيه ضالين، ولا يرون
الحقيقة. إنها مرحلة خطيرة حقًّا يظن الإنسان فيها نفسه على صواب، وهو في الحقيقة
واقع في الهاوية التي ليس لها قرار. للأسف مثل هذا المرض من أخطر الأمراض على
الإطلاق، إذ لا يعتقد صاحبه أنه مريض، بل يتباهي بسقمه أمام الجميع ظنًّا أنه
يمتلك الحقيقة، وغيره لا يملكون شيئاً. هذا المرض اللعين هو نتيجة طبيعية لما يسمى
انقلاب القلب!.
انقلاب القلب
القلب
مصمم بشكل يجعله منسجمًا مع الأفعال الخيرة، وينفر من الأفعال الشريرة بطبيعته،
بحيث يضطرب إذا حدث عدم توافق مع الكون من حوله. عندما يسلك القلب سلوكًا متسقًا
مع الطبيعة ومع مكونات الكون يظهر تأثير هذا السلوك مباشرة على الإنسان، إذ يشعر
بالارتياح والطمأنينة تغمر كل جوارحه، بينما عندما يسلك الإنسان سلوكًا منحرفًا
بأي درجة كانت؛ يبدأ الشعور والإحساس بالتوتر وعدم الراحة والقلق. تلك المشاعر
والأحاسيس المتفاوتة تكون أكبر ما يكون في البدايات، وتخفت هذه التأثيرات كلما
تكرر الفعل. شعور الراحة والطمأنينة يخبرك أنك متوافق مع الكون ومنسجم معه، بينما شعور
القلق والتوتر يخبرك بالعكس، وأنك في حالة عداء مع الكون ومكوناته. ما دام الإنسان
يمتلك هذا الحس فهو بخير؛ لأن القلب بطبيعته يدفع الإنسان لتعديل سلوكه كلما انحرف
السلوك به عن السلوك القويم. برغم أن هناك نظريات عديدة لتفسير السلوك القويم
ومنشأه، وهل هو مرتبط بالبيئة والمجتمع، أم هو صادر عن نفس الإنسان ذاتها، إلا
أننا هنا لن نقف على هذه الجزئية طويلًا ونؤكد أننا نعني بحديثنا عن السلوك القويم
مجموعة الركائز الأساسية للسلوك الفطري للإنسان، مثل الرحمة، والعطف، والصدق، دون
تداخل أي تأثير خارجي، مثل المجتمع، والوسط المحيط، أو التعليم، أو معارف معينة
على هذا السلوك. يظل الإنسان بخير ما دام يمتلك شعور تأنيب الضمير بعد كل قول أو
فعل غير سوي، ويظل سائرًا في الطريق الصحيح كلما حاول جاهدًا تكفير هذا السلوك غير
السوي ورفضه من داخله. الكارثة هي اعتياد سلوك منحرف؛ مع كل مرة ينشأ فيها سلوك
منحرف يضطرب القلب بشكل أضعف من سابقه، ومع استمرار الانحراف يخفت شيئًا فشيئًا
اضطراب القلب حتى يصبح متآلفًا تمامًا مع الانحراف.
في هذه
الحالة نستطيع القول إنه حدث انقلاب في مجال القلب، أو بتعبير آخر حدث انعكاس في
المجال القلبي، إذا أصبح الوضع في القلب مقلوبًا ينسجم مع الانحراف وينفر من
الانسجام. هنا تكمن الخطورة بل الكارثة التي لا يدري عنها صاحبها شيئًا، لقد تهاون
مرة بعد مرة حتى تعطل نظام التوجيه لديه، فأصبح فارغًا ليس لديه نظام توجيه يعصمه
وينبهه من الوقوع في الزلل. إنه تمامًا يشبه الطائرة دون نظام توجيه أو منطقة
حساسة دون نظام رادار وإنذار. انقلاب القلب أخطر من مرض نقص المناعة الإيدز، وأشرس
من أعتى الفيروسات؛ فهو تمامًا يدمر إنسانيتك، ويختطف مصيرك، ويلقيك في المهالك
وأنت تحسب أنك على الهدى، بل متيقن أنك مهتدٍ!
هذا النوع من الانقلاب لا يمكن فهمه إلا من
خلال فهم مبدأ انقلاب الأرض.
انقلاب المجال المغناطيسي للأرض
انقلاب
المجال المغناطيسي للأرض هو أن تتحول الاتجاهات وتنعكس، فيصبح الشمال جنوبًا
والجنوب شمالًا، ومن ثم تنقلب الاتجاهات رأسًا على عقب. أما عن آثار هذا الانقلاب
فلا توجد أبحاث كافية لتقدير حجم الكوارث ونوعها الذي يمكن أن يصيب الأرض وسكانها
من جراء هذا الانقلاب، ومما لا شك فيه أن جميع الأجهزة، وخطوط نقل الإشارات
والتيارات، لا بد أن تغير اتجاهاتها، ومن المعلوم علميًّا أن المجال المغناطيسي
للأرض قد عانى انقلابًا فى اتجاهه، وكانت آخر تلك المرات قبل 786000 عام.
يتوقع
العلماء الذين قاموا بدراسة تلك الظاهرة من جامعات عريقة مثل جامعات كاليفورنيا
وبركلي وكولومبيا بأن انقلابًا آخرَ سيحدث قريبًا وخلال أقل من 100 عام.
بالقياس
يمكننا فهم ماذا يمكن أن يعني انقلاب القلب؛ فالقلب له أيضًا مجالًا مغناطيسيًّا،
هذا المجال منسجم تمامًا مع الكون، والكرة الأرضية هي جزء من هذا الكون. تكرار
السلوك المنحرف يحفز تغيير المجال المغناطيسي للقلب، ويستمر المجال المغناطيسي
الطبيعي في محاولة إعادة الإنسان إلى مساره الطبيعي عن طريق الشعور بعدم
الراحة والاضطراب النفسي، ولكن مع كثرة واستمرار السلوك المنحرف يحدث ما يمكن
تسميته انقلابًا في المجال المغناطيسي، وعندها يتغير كل شيء، ويصبح السلوك المنحرف
هو السائد، والسلوك القويم هو الشاذ بالنسبة لهذا القلب.
وإذا
حدث هذا التحول فلا رجاء من عودة هذا القلب لمساره الطبيعي، ويصبح نشازًا فى
سيمفونية الطبيعة. تأثير هذا القلب المنقلب أو المنطمس على صاحبه تأثير ماحق، فلا
فرص للنجاة ولا وقت لالتقاط الأنفاس والتفكر، بل كبر وعناد وتصور كامل بالخيرية
والصواب، مما يقلل بل ويعدم أي فرصة للعودة. إذا كان هذا القلب الشاذ له تأثير
مدمر على صاحبه، فهو كذلك له تأثير على محيطه ليس بقليل؛ إذ القلوب تؤثر وتتأثر
ببعضها بعضًا، وله تأثير أيضًا على المنظومة الكونية ككل.
قد ينتهي الأمر ويزول الخطر ربما بهلاك صاحب هذا
القلب وتنتهي المشكلة، ولكن الطامة الكبرى تكمن في انتشار مثل هذه القلوب وزيادة
عددها. إذا كثرت تلك القلوب الشاذة فإن تأثيرها بالتأكيد سيتعاظم. من ناحية أخرى
سيصبح تأثيرها على القلوب حولها كبيرًا، مما يسبب انحراف القلوب السليمة أيضًا عن
طريق ما يسمى التأثير المستحث، الذي سيضاعف عدد القلوب المنحرفة، وهكذا تنحرف قلوب
البشرية على شكل متوالية هندسية تتزايد بشكل مرعب، وكأنها عدوى فيروسية أو أشد.
كلما زاد عدد القلوب النشاز، زادت فرصة الخلل في المنظومة الكونية ككل، مما قد
ينذر بكوارث طبيعية بسبب ارتباط هذه القلوب بالنظام الكوني، وأي تغير في اتجاه
مجال هذه القلوب بالتأكيد سيؤثر في تغيير اتجاه مجال الكون ككل، ومن ثم انهيار
المنظومة الكونية.
الخواطر القرآنية
القلب في القرآن.
قبل أن
نبدأ في تتبع لفظ القلب دعونا نمر سريعًا على البرنامج الذي أعده الخالق، ووضعه في
الإنسان وضبط القلب على تردده، وهو ما يسمى بالفطرة. الفطرة هي السلوك القويم
المنسجم الذي أودعه الله مخلوقاته، وجعلها منسجمة تمامًا مع كل ما حولها. من خلال
التعبير الفيزيائي نستطيع أن نقول إن السلوك الإنساني على سطح الأرض إذا كان
سلوكًا فطريًّا فإن الموجات الكهرومغناطيسية، التي هي ترجمة للسلوك البشري ومصدرها
القلب تكون منسجمة تمامًا مع الموجات الكهرومغناطيسية في محيطها؛ المقصود بمحيطها
هو الكون كله، فما نحن إلا جزء من هذا الكون، ونعمل من خلاله بقدر معين. إذا كان
السلوك غير سوي فتردد وطول الموجات لهذا السلوك يكون غير متوافق مع المجال الكوني،
ومن ثم يحدث ما يمكن أن نسميه زيغًا أو حيودًا أو خللًا.
﴿فَأَقِمْ
وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا
لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (سورة الروم الآية : 30).
الدين
هنا هو "القانون الذي أودعه الله في النفوس بحيث يكون متوافقًا تمامًا مع
المنظومة الكونية، انظر الآية في سورة
يوسف التي تتحدث عن دين الملك، وهو القانون الذي وضعه الملك، أو الدستور الذي يحكم
العلاقة بين الملك والرعية ﴿فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ
ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ
لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ نَرْفَعُ
دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ (سورة يوسف الآية :
76).
هذا
القانون الإلهي أو البرنامج الإلهي هو المنوط به ضبط النفس مع محيطها، وتنبيه
الإنسان في حالة الانحراف عن طريق الإحساس بالاضطراب، والتوتر وعدم الارتياح،
وتعزيز انسجامه مع الكون ومحيطه في حالة الأفعال الخيرة، من خلال شعور بالارتياح
والثقة والرضا.
الفرق بين القلب والفؤاد:
كيف يشعر القلب وكيف يؤثر في محيطه ويتأثر به؟
دراسة
الفرق بين بين القلب وبين الفؤاد من خلال كتاب الله، ومن خلال اللغة، هو ما يثبت
بما لا يدع مجالًا للشك أن القلب يملك إحساسًا ومجالًا، لا يمكن إنكاره، يشبه إلى
حد كبير مجال البصر للعين، ومجال السمع في حالة الأذن. اقتصار وصف وتعريف الفؤاد في
كتب التفسير على أنه القلب هو خطأ شائع. لا يمكن بحال من الأحوال أن نقول على
عملية الإبصار هي العين، أو أن السمع هو الأذن، فكذلك لا يمكن نعت القلب بالفؤاد،
حيث ذكر الفؤاد معطوفًا على السمع والبصر وليس معطوفًا على العين والأذن كما في
الآيات التالية:
﴿لَا تَقْفُ
مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ
أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ (سورة الإسراء الآية : 36).
﴿وَاللّهُ
أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ
الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (سورة النحل
الآية : 78).
﴿وَلَقَدْ
مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا
وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ
وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ
وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون﴾ (سورة الأحقاف الآية : 26).
﴿وَهُوَ
الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا
تَشْكُرُونَ﴾ (سورة الملك الآية : 78).
فكما
السمع هو مجال الأذن والبصر هو مجال العين فبالقياس الفؤاد هو مجال القلب. فإذا
كانت العين تبصر والأذن تسمع فكذلك القلب يفقه، كما ورد ذكره في الآية التالية:
﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ
لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا
يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَٰئِكَ
كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ (سورة الأعراف
الآية : 179).
الفقه
في اللغة هو إدراك الشيء، ولو تتبعنا لفظة يفقه في القرآن، نجد أنها تشير إلى معنى
إدراك حقيقة الأشياء والتميز بينها. كيف يمكن للقلب أن يفقه أي يدرك الأشياء ويميز
بينها، إلا إذا كان لديه برنامج يستطيع من خلاله القياس والمقارنة. عملية التمييز
هذه أو القياس والمقارنة يلزمها نسخة أصلية يستطيع من خلالها القلب قياس الأشياء
عليها، وهذه النسخة أو هذا البرنامج، على ما يبدو، هو الفطرة التي فطر الله الناس
عليها. من خلال الفطرة يستطيع القلب مقارنة ما يطرأ على الإنسان من أحداث ومن ثم
تقرير ما إذا كان هذا الحدث متسقًا مع هذا البرنامج أو منحرفًا عنه، ويظهر هذا
التفاعل في صورة اضطراب في حالة السلوك المنحرف، وانسجام في حالة السلوك القويم.
يجري
على القلب ما يجري على الحواس الأخرى؛ إذ يمكن للقلب أن يفقد مجاله؛ وهو الفؤاد،
أو يحدث لهذا الفؤاد اضطراب ما. نلاحظ من خلال آيات الذكر الحكيم أنه إذا انقطع
السمع صار الإنسان أصمًا، وإذا انقطع الإبصار صار الإنسان أعمى، أما إذا انقطع
اتصال القلب بما حوله صار الفؤاد فارغًا، كما في حالة أم موسي عندما فقدت وليدها.
﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا ۖ إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا
أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (سورة القصص
الآية : 10).
إذا
كان السمع هو القدرة على الإحساس بالموجات الصوتية، والبصر هو القدرة على الإحساس
بالموجات الضوئية، فكذلك الفؤاد هو القدرة على الإحساس بالموجات الكهرومغناطيسية،
المسئولة عن المشاعر والأحاسيس؛ ولو لاحظنا كلمة فارغًا المذكورة في الآية
الكريمة، وأصلها كما في قاموس اللغة (خلو) وسعة، ولو تتبعنا الكلمة في كتاب الله
نجد أنها تشير إلى خلو شيء، وهو انتقال ما يحويه هذا الشيء إلى موضع آخر، فالفؤاد
وكأنه مركز الشحنات الكهرومغناطيسية، والتي عن طريق هذه الشحنات يؤثر ويتأثر
بغيره، فلما حدثت المصيبة العظيمة لأم موسى بفقد ولدها وإلقائه في اليم بيدها،
فكأنما انقطع الفؤاد وأصبح فارغًا، أي تحولت تلك الشحنات عنه وأصبح معطلًا. لعل
هذا يفسر لنا لماذا يصير لدى كثير من أصحاب المصائب العظيمة تبلد في الشعور، وعدم
استجابتهم لما يدور حولهم أو تأثرهم به، ربما حدث ذلك بسبب فراغ الفؤاد فينقطع
التواصل. قد نكون بهذا التقديم البسيط قدمنا للحاسة السادسة لدى الإنسان من خلال
كتاب الله وهي الفؤاد. مدلول القلب
عن
طريق تتبع كلمة القلب في كتاب الله، وعن طريق فهم جذر كلمة قلب في اللغة؛ ندرك من
الوهلة الأولى أن هذا العضو المهم ليس مجرد تجويف عضلي، وإنما مركز مهمٌ، بل بالغ
الأهمية في جسم الإنسان، فهو مسئول بدرجة كبيرة عن السلوك والإحساس والشعور. في
اللغة الجذر الثنائي لفعل قلب القاف واللام لها أصلان: الأول نزارة الشيء، والثاني
يدل على عدم الاستقرار أو الانزعاج. أما كلمة قلب (الجذر الثنائي مضافًا إليه حرف
الباء) فله أصلان أيضًا، الأول هو خالص الشيء وشريفه، والثاني هو رد شيء من جهة
إلى جهة أخرى (شيء متحول). أعتقد أن الأصلين يعطيان معنى واضحًا لكلمة القلب،
فالأصل الأول يوحي بنقاء المسمى وإعداده بطريقة مثالية للقيام بمهامه، والأصل
الثاني يوحي بسهولة تحول وتغيير هذا المسمى من جهة إلى جهة أخرى. نستطيع من اللغة
فقط أن ندرك حساسية هذا العضو وأهمية بقائه نقيًّا خالصًا من الشوائب ليستطيع
القيام بوظيفته دون خلل.
فى
كتاب الله، ورد ذكر القلب بصيغة المفرد في عشرين موضعًا، وفي موضع واحد بصيغة
المثنى، وبصيغة الجمع في 112 موضعاً، ولن نسرد كل الآيات التى ورد فيها ذكر القلب،
وإنما سنكتفي ببعض الأمثلة تجنبًا للإطالة:
أولًا:
مجموعة من الآيات تشير إلى أن القلب مركز الذاكرة والإدراك:
الآيات
الكريمة التي أشارت إلى أن القلب هو مركز الذاكرة والإدراك لا تحتاج إلى بيان، فهي
واضحة بما يكفي وتخبر عن نفسها.
﴿إِنَّ
فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ
شَهِيدٌ﴾ (سورة ق الآية : 37).
﴿قُلْ
مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ
اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (سورة
البقرة الآية : 97).
﴿أَفَلَا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ (سورة
محمد الآية : 24).
﴿أَفَلَمْ
يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا
أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن
تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور﴾ (سورة الحج الآية : 46).
﴿وَلَقَدْ
ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ
لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا
يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَٰئِكَ
كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ (سورة الأعراف
الآية : 179).
﴿وَإِذْ
أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم
بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي
قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ
إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ (سورة البقرة الآية 93).
﴿وَلِيَعْلَمَ
الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَّاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ
لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم
مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾ (سورة آل
عمران الآية : 167).
ثانيًا:
آيات تشير إلى مرحلة الطبع أو الختم على القلب
هذه
المجموعة من الآيات تشير إلى ما أطلقت عليه مرحلة انقلاب القلب، وهي أخطر مرحلة؛
إذ لا ينفع مع صاحبها تقويم أو علاج. عند الوصول لهذه المرحلة يكون الإنسان قد
استنفد عدد مرات الرسوب السلوكي، و ينطفئ في قلبه النور المتمثل في مراكز الإحساس،
فلا استقبال ولا إرسال مع الكون من حوله، فيكون سيره على غير هدى ولا دليل (لا
يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا). في هذه الحالة لا يملك القلب القدرة على التفريق
بين السلوك القويم والسلوك غير القويم، ويصبح التشويش والارتباك هو السمة السائدة،
والنمط المسيطر على حياة هذا الشخص. الخطورة تكمن في أن مثل هذه الحالة عندما
تنطمس لديها مراكز الإحساس؛ فلا يجد ما يعرف بوخز الضمير أو القلق والتوتر عند فعل
سلوك منحرف، بل يصير الفعل مستساغًا ومقبولًا، مما يحفزه على المزيد. هناك خطورة
أخرى تضاف إلى انطماس مراكز الإحساس في القلب إذا كان لدى صاحب هذا القلب، ما بين
قوسين، علم أو معرفة معينة، أو ذا رأي بين العامة، هنا تكمن المصيبة عندما يفتي القوم
بفتاوى توافق الهوى أو المصلحة دون أن يرمش له جفن، بل في الأغلب يكون قلبه
مستقرًا ومطمئنًا، لكنه الاستقرار والاطمئنان في الاتجاه العكسي، وهذه هي مرحلة
الطبع على القلب.
﴿الَّذِينَ
يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا
عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىٰ
كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ﴾ (سورة غافر :
الآية 35).
﴿أَفَرَأَيْتَ
مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ
عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ
مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ (سورة الجاثية الآية : 23).
﴿كَذَٰلِكَ
يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُون﴾ (سورة الروم
الآية : 59).
﴿أَفَلَمْ
يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا
أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن
تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ (سورة الحج الآية : 46).
﴿ثُمَّ
بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ
فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِن قَبْلُ كَذَٰلِكَ نَطْبَعُ
عَلَىٰ قُلُوبِ الْمُعْتَدِين﴾ (سورة يونس الآية : 74).
﴿تِلْكَ
الْقُرَىٰ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم
بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِن قَبْلُ كَذَٰلِكَ
يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ﴾ (سورة الأعراف الآية :
101).
﴿خَتَمَ
اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ
وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (سورة البقرة الآية : 7).
ثالثًا:
آيات تشير إلى أن القلب محل الإحساس والشعور
سنعرض
الآيات الكريمة التي تناولت المشاعر والأحاسيس المختلفة والتي محلها القلب، مثال
شعور الخوف أو الطمأنينة أو العداوة، وكذلك تصرفات وسلوك، مثل كتم الشهادة، والكذب
وشهادة الزور، أو الغش، وكلها أنواع وأشكال مختلفة من ظلم الغير، تصدر عن طريق خلل
في نظام القلب.
﴿وَمِنَ
النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ
عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ (سورة البقرة الآية : 204).
لنا
هنا وقفة مع كلمة ألدُّ، أصل الكلمة لد ولها أصلان، أولهما الخصام، والثاني يدل
على ناحية وجانب؛ ويقال تلدد أو التفت يمينًا ويسارًا متحيرًا. في التفسير يقول
مجاهد عن (ألدُّ ) طالب لا يستقيم؛ أما السُّدي فيقول معناه أعوج الخصام.
المعنى
الأقرب لكلمة ألد هو أعوج، وهذا يشير إلى أن الخصام في حد ذاته له وجهان، أحدهما
معتدل، والآخر معوج. المعتدل من الخصام هو ما كان موافقًا للفطرة وموجهًا ضد
السلوك السيئ، وغالبًا ما يكون هذا الخصام موجهًا فقط لنوع واحد من السلوك
المنحرف. أما الخصام المعوج فهو الخصام من أجل سلوك قويم، وغالبًا ما يكون هذا
الخصام معوجًّا بسبب تداخل أحاسيس أخرى، مثل الحقد، والحسد، والكذب. الخصام
المعتدل يزول بزوال المسبب، وهو السلوك المنشئ لهذا الخصام بعكس الخصام المعوج،
فحتى بإزالة المسبب يبقى الخصام حسدًا وحقدًا.
﴿وَإِذْ
قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ
تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً
مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ
مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (سورة البقرة الآية : 260).
﴿وَإِن
كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ
أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ
اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ
قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ (سورة البقرة الآية : 283).
آثم في
اللغة تعني البطء والتأخر عن المعدل الطبيعي؛ هذا التأخر لا شك أنه مرضٌ يصيب
القلوب. ما دام أن القلب يتأثر ويؤثر في محيطه فلا بد أن يكون للقلب في وضعه
الطبيعي رد فعل مناسب تجاه ما يحدث أمام وحول الإنسان. كتمان الشهادة وتأخيرها
وحجزها والإبطاء بها يُعوِّد القلب على التأخير والإبطاء في رد الفعل؛ حتي يصبح
التبلد والتأخر هو سمة من سمات هذا القلب السقيم، إنه الجزاء المرتبط بالعمل. من تأخر في قول الحق وكتم شهادة وظل يقنع نفسه
بالتريث في وقت لا مكان فيه للتريث، هو في الحقيقة يُتْلِف فطرته السليمة، ويتسبب
في انتكاستها. تكرار هذه العملية يسرع عملية انقلاب القلب، وتصبح مسألة طبعه أو
ختمه مسألة وقت لا أكثر. فما تظنه هيِّنًا ولا تلقِ له بالًا لربما فعل بك
الأفاعيل، وغيَّر تصميم القلب الفطري وأنت لا تشعر؛ مجرد كتم كلمة كان يجب أن
ُتقال أو قول ما لا يجب قوله مخالفة للفطرة، يمكن أن يكون له تأثير متناهي العظم
على حياتك شخصيًّا، وعلى الكون من جهة أخرى.
يظل
الإنسان في الوضع الآمن ما دام يشعر برفض كل مشهد أو سلوك منحرف ولا يبرر طغيان
الباطل. من وقع في براثن التبرير محاولًا إرضاء نفسه حتى تستسيغ الواقع الذي ترفضه
الفطرة، هو بذلك يهلك نفسه دون أن يدري؛ لو تعود القلب على رذيلة واحدة، ولم يعد
ينكرها فستحيط هذه الرزيلة بقلب صاحبها حتى تهلكه.
﴿بَلَىٰ
مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ
النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (سورة البقرة الآية : 81).
﴿سَنُلْقِي
فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ
مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى
الظَّالِمِينَ﴾ (سورة آل عمران الآية : 151).
تعالوا
نتعرف لماذا يصيب الرعب القلوب المشركة بشكل فيزيائي. كل إنسان كما قلنا قلبه
منسجم تمامًا مع ما أُعدَّ من أجله، وبوصلة هذا القلب متجهة لخالقها، فإذا أشرك
الإنسان مع خالقه أحدًا غيره، سواء كان سلطانًا، أو جاهًا، أو مالًا، أو أي نوع من
أنواع الأوثان؛ فهنا تختل البوصلة ويتعلق القلب بهؤلاء الشركاء.
لماذا
يصيب القلب الرعب نتيجة للإشراك؟
تعلق
القلب بالخالق يضمن له الثبات؛ لأن الخالق سبحانه لا يتغير ولا يتبدل مما يعزز
استقرار هذا القلب؛ على العكس من ذلك الشركاء سواء كانوا سلطة أو جاهًا أو مالًا،
فكل هؤلاء الشركاء متغيريين وغير مستقريين، أي مذبذبين، وهذه طبيعة كل شيء ما عدا
الله سبحانه وتعالى. هذه الطبيعية المتغيرة والمتذبذبة لا بد لها أن تنتقل للقلب المتعلق بها فيصير
القلب تبعًا لذلك مضطربًا ومرتبكًا. الرعب في حقيقته اضطراب وتشوش يصيب القلب.
الحل كما يخبر ربنا هو التخلص من كل الشركاء، والإبقاء فقط على الاتصال بين القلب
وبين خالقه، لأنه هو الوحيد القادر على ضبط هذا الجهاز وتوجيهه بطريقة صحيحة.
وصف الله سبحانه وتعالى للعباد الذين لا يمكن
للشيطان غوايتهم بالمخلصين؛ إذ خلَّصوا قلوبهم من التعلق بغير الله، فلا يمكن لأحد
تشويش أو إزعاج أو التأثير على هذه القلوب، إنه أبلغ وصف يمكن أن يصف تلك القلوب
التي تخلصت من كل ما هو دون الله، فلا يمكن أن يصيبها الرعب أو الاضطراب، وإنما
سكينة وطمأنينة بسبب طريقة اتصالها الصحيح.
﴿وَإِذَا
ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ
يَسْتَبْشِرُونَ﴾ (سورة الزمر الآية : 45).
لنحاول
فهم كلمة اشمأزت في هذه الآية الكريمة من خلال جذر الكلمة؛ أصل الكلمة شمز، كما في
قاموس اللغة، ومعناها الانقباض أو اجتماع الشيء بعضه إلى بعض. ذلك يعني أنه كلما
حاول القلب المنتكس توجيه مجاله نحو خالقه ليعود الانسجام مرة أخرى، حدث الانقباض
والتنافر؛ لأن قلوب الذين لا يؤمنون توافقت تمامًا في عكس اتجاه الفطرة، فكل
محاولة لإعادتها من حالتها المستقرة تلك تواجه بالاشمئزاز. الذين لا يؤمنون بالله
ولا باليوم الآخر انقطعت صلتهم بربهم، فأصبحت قلوبهم مستقرة بعيدًا عن فطرة
الخالق، وأي محاولة لتوجيه القلب نحو خالقه مرة أخرى تلاقي مقاومة كبيرة لتغيير
حالة الاستقرار هذه، برغم أنها حالة غير صحيحة. قانون الطبيعة واحد، فكل الأشياء
تميل للبقاء في الحالة المستقرة وتقاوم تغير هذه الحالة بغض النظر عن نوع
الاستقرار، هل هو استقرار على الوضع الصحيح أم استقرار على الوضع الخاطئ. مثال
حالة القوس فكلما حاولت تعديل وضعه، قاوم القوس هذا الوضع وعاد لوضعه الطبيعي،
فالوضع المستقر هو بالنسبة للقوس هو الوضع المعوج، لكي يؤدي وظيفتهوأي محاولة
لتقويمه هي محاولة ستفقده وظيفته.
في
حالة القلب المستقر على الفطرة السليمة فإنه يحاول دائمًا العودة للفطرة، عندما
يحدث له انحراف (الوضع المستقر له هو وضع الفطرة السليمة) بينما القلب المطبوع أو
المنقلب عن فطرته، كلما خالطته حالة يمكن أن تعيده لفطرته الأصلية، يشمئز منها
وينفر، ويطمئن لوضعه المستقر على
الانحراف. لذلك حذر ربنا من الاستهانة بالمعاصي وتكرارها، ففي الاستهانة والتكرار
تحفيز خطير للقلب أن ينقلب ويألف الوضع الشاذ، وبالتالي سيقاوم أي تغيير لإعادته
للوضع الصحيح.
﴿ثُمَّ
قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ
وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ
اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا
عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ
رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ
مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ (سورة الحديد الآية : 27).
الرأفة
والرحمة والرهبانية كلها مشاعر وأحاسيس جعلها الله في القلب، تُتَرجم إلى سلوك
وتصرف يقوم به الإنسان. كلمة ابتدعوها وتعبير ما كتبناها عليهم توحي بأن الرأفة
والرحمة من ضمن ما كتب الله على القلوب، ومن ضمن البرنامج الأصلي للقلوب، بعكس
الرهبانية التي هي نتاج بشري خالص.
القلوب
صممت على الرحمة والرأفة، وتدرك هذا المفهوم بسهولة ويسر دون أي عناء؛ أما
الرهبانية فهي ليست من الفطرة، وإنما هي سلوك وتصرف بغرض التقرب إلى الله،
والرهبانية هنا مع أنها سلوك ليس فطريًّا إلا أن المداومة عليه جعلته يتنقل
لبرنامج القلب، ويصبح ملازمًا له مثله في ذلك مثل أي سلوك يعتاده القلب.
هنا
يجب الحذر من محاولة مجاهدة النفس وجعلها تنتهج سلوكًا، حتى وإن كان يبدو طيبًا
مراده الخير، لم يقرره الله؛ لأن هذا السلوك يتطلب إعدادًا خاصًّا وجهدًا إضافيًّا
حتى يتعوده القلب ويصبح من ضمن برنامجه.
بشكل
علمي أي زيادة أو نقص في منظومة مغلقة يتبعها مراجعة شاملة لهذه المنظومة، وهذه
الزيادة أو النقص يؤثر بقدر ما في باقي المنظومة؛ لذلك نجد أن الرهبانية التي
ابتدعها بعض الناس للتقرب إلى الله احتاجت، لكي تنضم للسلوك الفطري المُجهز سابقًا
في القلب، إلى مجهود حتى تصبح جزءًا من السلوك الفطري، فبالتالي أي خلل في هذا
السلوك، أقصد سلوك الرهبانية، وعدم القيام به بطريقة صحيحة، سيؤثر بالسلب على باقي
السلوك الفطري؛ ومن ثم يصيب الخلل نظام التوجيه في القلب ككل. ولذلك يكون التحذير
شديد جدًّا في الابتداع أو محاولة إجهاد القلب في سلوك ليس فطريًّا؛ لأن هذا
السلوك إذا صار مكسبًا للقلب، فإن أي خلل في هذا السلوك التطوعي أو عدم القيام به
بشكل سليم وصحيح، ينشأ عنه خلل في باقي السلوك الفطري.
من هنا
يمكننا أن ندرك لماذا القرآن الكريم دائما يحث الناس على الاعتدال، وعدم التطرف،
أو محاولة الابتداع، فالسير خلف الفطرة وضبطها نحو خالقها هي الطريقة الوحيدة
الضامنة لانسجام القلب مع الكون وتوجيهه السليم للفرد.
الآيات التالية ملئية بالتعبيرات القرآنية
الدالة على احتواء القلب على مجموعة من المشاعر والأحاسيس المختلفة.
﴿وَمَا
جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا
النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ (سورة آل عمران الآية
: 126).
﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ
إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَّوْ كَانُوا عِندَنَا مَا
مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَٰلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ
وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ (سورة آل عمران
الآية : 156).
﴿قَالُوا
نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ
صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ (سورة المائدة الآية : 113).
﴿إنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا
تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ
يَتَوَكَّلُونَ﴾ (سورة الأنفال الآية : 2).
﴿وَمَا
جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا
النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (سورة
الأنفال الآية : 10).
﴿وَيُذْهِبْ
غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ﴾ (سورة التوبة الآية: 15).
الطمأنينة
والحسرة والوجل والغيظ كلها أحاسيس وشعور، محلها القلوب، والآيات تطول وتحتاج
لتفصيل، وتؤكد أن القلب محل الشعور والأحاسيس. الشعور والأحاسيس ما هي إلا صدى
للسلوك البشرى فسلوك الكذب يورث القلب توترًا وقلقًا، والغيرة والحقد والحسد ما هي
إلا تفاعلات نفسية معينة تُترجم إلى تصرفات وسلوك. الآن يمكننا تلخيص تفاعل القلب
مع البيئة المحيطة كما يلي:
عند
تعمد سلوك خاطئ، مثل الكذب، فإن القلب يبث ذبذبات هذا السلوك للوسط المحيط؛ لأن
هذه الذبذبات غير متوافقة مع الطبيعة فتعاني جهدًا معينًا ما يلبث أن يرتد إلى
القلب مرة أخرى ليشعر القلب بعدم الراحة، فكما قلنا إن القلب يعمل كجهاز إرسال
واستقبال؛ إذ جميع المقادير الفيزيائية مصنفة كأزواج، فما يبثه القلب في الوسط
المحيط ما يلبث أن يعود إليه، إما بتوافق أو بتنافر. لكي يؤثر السلوك أو التصرف في
محيطه فلا بد أن يكون نابعًا من داخل الإنسان، أي متعمدًا ومقصودًا. السلوك
المتعمد والمقصود يكون له صدى داخل القلب، وله تردد يصدره القلب، يتفاعل مع البيئة
المحيطة. السلوك الناتج عن الخطأ أو النسيان وغير متعمد لا يدخل ضمن هذه المنظومة،
ولا يؤثر في محيطه بسبب غياب الحاجة الداخلية.
﴿ادْعُوهُمْ
لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ
فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا
أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا
رَّحِيمًا﴾ (سورة الأحزاب الآية : 5).
في
الآية الكريمة إشارة واضحة للفرق بين الخطأ، الذي هو نتيجة لتصرف غير مقصود لم
تعقد النية عليه، وبين تصرف متعمد، معقود النية ومقصود. التصرف الخطأ هو تصرف أو
سلوك لم يُعد في مركز التوجيه وهو القلب، لا يترتب عليه تغير في ترددات القلب؛
بخلاف الفعل المتعمد والمقصود، فهو فعل متبوع بذبذبات وتردد معين، إما موافق أو
غير موافق. لذلك إنما الأفعال معقودة بالنيات، فكل فعل صادر عن إرادة وعزم حقيقي
هو الفعل ذو التأثير الحقيقي الذي يجب أن يُأخذ في الحسبان.
﴿مَن
كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ
مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ
غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾(سورة النحل الآية : 106).
هنا
أيضًافى الآية الكريمة تقرير بأنه لا ضير في الإكراه، ما دام أن القلب رافض لهذا
الإكراه ومطمئن لفطرته، ولكن المشكلة الحقيقة تكمن إذا تهاون هذا المكرَه مع الفعل
ولم ينكره بقلبه، وحاول إقناع نفسه بسلامة الخطأ ومعقوليته. في هذه الحالة سيخالط
الكفر ما في قلبه من إيمان فيفسده. أي محاولة لتبرير الظلم والكفر حتى يقبلها القلب
هي محاولة كارثية مدمرة لنظام التوجيه في القلب، يتبعها الانحراف الذي حذر الله
منه ويستحق صاحبه غضبًا من الله.
هل
هناك علامة على غضب الله أكثر من تحول القلب من فطرته وطمأنينته إلى التعايش مع
الكفر ومحاولة تقبله، الكفر هنا هو طمس الحق وتغطيته؛ ولعل هنا تحذير للإنسان
المؤمن المطمئن إلى عدم الركون أو البقاء في أماكن ومناطق يكون فيها احتمالية
الرضوخ للباطل قائمة، فإن كان مضطرًا فى البداية ولا شيء عليه، إلا أنه مع الوقت
قد تبدأ مرحلة شرح الصدر ومحاولة تقبل وتبرير هذا الكفر، فيتغير القلب دون أن
يدري، ويصبح مستحقًّا لعذاب الله وغضبه.
﴿مَا
أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ
قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (سورة التغابن الآية : 11).
هذه
الآية الكريمة تلخص كل ما يمكن قوله في أن القلب مصدر السلوك الإنساني، وإذا اختل
هذا السلوك يمكن أن يسبب خللًا في البيئة المحيطة، ومن ثم ينتج عنه كوارث ومصائب.
في الآية السابقة يقول الله عز وجل ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا
بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ هذا لا يمكن بحال من الأحول أن يناقض أن المصائب من عند أنفسنا،
ولكنها بإذن الله أي بعلم الله وبقوانينه وأسبابه. يتضح هذا المعنى إذا أكملت
الآية ﴿وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ﴾ فمن يؤمن بالله فعلٌ نتيجته من المفترض الوقاية
من المصائب، ولكن الآية لم تذكر أن من يؤمن بالله يمنع عنه المصائب، بل ذكرت أن من
يؤمن بالله ﴿يَهْدِ قَلْبَهُ﴾. هداية القلب تعود بالقلب لوضعه الطبيعي، وبالتالي
تمنع انحرافه وتعيده إلى الاتساق مع الكون، وبالتالي تمنع حلول الكوارث والمصائب
التى يكون انحراف السلوك سببًا مباشرًا فيها. تختم الآية بقول الله سبحانه
﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ لفظ عليم يوحي لك أن مسألة الوقاية من المصائب
عن طريق هداية القلب فيه من العلم ما فيه، ولعله إثارة لعقولنا للبحث والتنقيب.
إنها إشارة لكل منكر كيف يمكن لهداية القلب أن تقي من المصائب، وأن ينتهج العلم
منهجًا في فهم هذا الارتباط بين القلب والمصائب.
الكون
سيمفونية بليغة الألحان قائم عليها خالق عظيم، ومن بديع هذه السيمفونية أنها
منسجمة تمامًا مع بعضها بعضًا، لا شذوذ ولا انحراف فيها، ولا يمكن بحال من الأحوال
أن تكون الفرضيات التي نفرضها في تعارض مع قدرة الله وعلمه. إن من يفترضون هذا
التعارض إنما يعتقدونه بحسب تصورهم القاصر عن الخالق، ويحاولون الدفاع عن قدرة
الله المطلقة غير المرتبطة بالقوانين، لأن عقولهم ترتاح لذلك. أما التفكر والتدبر
فهو عملية مجهدة ومحفوفة المخاطر وغير آمنة على الإطلاق، وتثير كثيرًا من الشكوك،
خاصة إذا كان المتدبر غير مؤهل للخوض في مثل هذه الأمور. إن تمام القدرة في تصورنا
أن يكون فيها كل سلوك وكل حركة وكل طرفة عين بقدر وبسبب وبقانون وتناسق وتوافق، من
خلال منظومة متكاملة تدل وتشير إلى الوحدانية. إنها يد الله التي تعمل من خلال
العلم المحيط والقدرة اللانهائية المطلقة. يبدو أن الإنسان أعدَّ لتولي مهمة
الإشراف على هذه السيمفونية الكونية والعمل معها ومن خلالها في انسجام تام فيما،
يعرف بمفهوم العبودية، التي لا تعني أبدًا الخضوع والاستسلام (انظر الجزء الثالث)
وإنما تعني العمل بمسئولية كاملة عن سلوك وتصرفات نفسه ومن حوله.
الآثار المدمرة للسلوك المنحرف
مما لا
شك فيه أن سلوكًا منحرفًا لا ينسجم مع الكون سيسبب اضطرابًا في المنظومة الكونية
ككل. يبقى تأثير هذا السلوك صغير جدًّا أو مهملًا، إذا كان سلوكًا فرديًّا غير
قادر على تغيير في النظام الكوني.
إذا
حدث وزادت أعداد المنحرفين فهذا نذير بزيادة مقدار الاضطراب والتشوش الذي ينتقل
إلى المنظومة الكونية. هنا تتجلى نظرية التكافل والتكامل في أسمى معانيها؛ وهي
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. العلم يوفر وجهة نظر مقبولة عن فكرة الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، عن تلك الفكرة التي تقوم على فرض الوصاية والإجبار.
الكون
يشبه السفينة الحقيقة التي تبحر في محيط لا نهائي، كل إنسان لديه مهمة محددة على
هذه السفينة تتكامل مع الآخرين وتتوافق معهم؛ إذ تصبح المحصلة النهائية سير
السفينة بشكل صحيح دون أي اضطراب. فإذا قام أحد ركاب السفينة بعمل مخالف من شأنه
التأثير على سير السفينة، حتى وإن كان فعلًا صغيرًا، هنا يجب توعيته بمخاطر هذا
الفعل بشكل علمي صحيح، وتوضيح كيف يمكن لسلوكه أن يكون سلوكًا مدمرًا وكارثيًّا
على الآخرين. فرض الوصاية بدون علم ستزيد من حدة التوتر وستؤدي للتضامن مع المخرب؛
لأن النفس البشرية ترفض التجبر والتسلط والوصاية. هذا الرفض للسلطوية من ضمن
البرنامج الإلهي والفطرة السليمة. قد تؤدي الوصاية في بعض المجتمعات إلى نتائج
إيجابية في الشكل الخارجي، ولكن على المستوى المادي لن تجلب إلا الخراب والدمار.
خصوصًا إذا علمنا أن عملية إبحار السفينة في المحيط الكوني تعتمد على نوعين من
القوى والترتيبات: القوي الأولى هى القوى المرئية أو المادية، مثل صيانة المحرك،
وعوامل التشغيل السليمة ؛ والقوى الثانية هي الحاجة الداخلية للسير والإصلاح، وهي
قوى غير مرئية وغير مادية.
مجابهة
السلوك المنحرف دون وعي حقيقي بخطورته على المنظومة الكونية، ومن خلال منظومة
دينية غير مفهومة تقوم على الوصاية والتسلط، ستزيد من أعداد المنحرفين والمتقبلين
للانحراف بحجة مجابهة التسلط ورفض الجبرية. هنا تكمن الكارثة الحقيقة؛ حتي إذا زاد
عدد أصحاب السلوك المنحرف إلى الحد الذي يستطيع أن يسبب تشوهًا ملحوظًا في
المنظومة الكونية، عند هذه النقطة تبدأ هذه المنظومة في التفسخ والانهيار شيئًا
فشيئًا؛ حتى إذا وصلت إلى نقطة اللاعودة، يصبح أمر انهيار النظام الكلي هو مسألة
وقت لا أكثر.
الهدف
الرئيسي للشرائع السماوية، هو العودة بالإنسان إلى فطرته السليمة، والحد قدر
الإمكان من الشذوذ؛ لأن الشذوذ في السلوك هو السبب الرئيسي في اضطراب القلب،
وبالتالي المجال المحيط به مما يتسبب في خلخلة الانسجام الكوني.
القصص القرآني
القصص
القرآني العظيم الذي يخبرنا عن المجتمعات الكاملة التي هلكت بسبب شذوذهم، هي مثال
واضح لما يمكن أن يحدث إذا استفحل السلوك السيئ وساد عوضًا عن السلوك القويم. ليست
قصصًا تروى هكذا، وإنما إشارات تتكامل مع أحسن الحديث وأصدق الأقوال في كتاب الله.
بحث القصص القرآني يمنحنا فرصة جيدة لتطبيق النظريات المعرفية التي تحصلنا عليها،
والتي تقضي بتأثير السلوك الإنساني على النظام الكوني، وكيف يمكن أن يختل النظام
عن طريق فعل الإنسان المنحرف.
هذه
المجتمعات عندما انحرفت بسلوكها عن الفطرة صارت أغلب قلوب أصحابها منتكسة غير
متوافقة مع محيطها. هذا الانتكاس في الفطرة مثَّل عبئًا على الكون لما يحمله من
تنافر واختلاف وعدم انسجام. لقد استطاعت هذه التجمعات بتكتلها خلف الخطيئة أن تصنع
ما يسمى بالكتلة الحرجة، وهي الكتلة القادرة على إحداث التغيير. لأن الكون جميعه
في انسجام، والنسيج الكوني ملتف على بعضه فلا يمكن استبعاد أن اضطرابًا ناتجًا عن
تجمعات بشرية في بقعة مركزة، مثل المجتمعات التي ذكرها ربنا بالقرى قد يكون أحد
أسباب الكوارث الطبيعية، مثل الطوفان، أو الصاعقة، أو الصيحة، أو ريحٍ صرصرٍ
عاتية،
من
الأشياء اللافتة للنظر، والتي يخبرنا عنها القصص القرآني، هو أن أغلب الهلاك
والدمار قد أصاب أهل القرى، والتي من المعروف أن أصحاب القرى يتميزون بالاجتماع،
ويغلب عليهم المنهج الواحد والنمط الواحد على عكس أهل المدن الذين يتميزون بكونهم
أخلاطًا.
الفرق بين القرية والمدينة في كتاب الله
لقد
صال وجال كثير من المعاصرين في بيان الفرق بين مدلول القرية والمدينة، ولكن لا بأس
من التعريج على هذا المفهوم من خلال فهمنا لحالة القلب وتأثيره في محيطه. كلمة
قرية في اللغة مشتقة من القاف والراء وحرف العلة، وله أصل واحد كما جاء في قاموس
اللغة، وهو جمع أو اجتماع ، ومن ذلك سميت القرية قرية لاجتماع الناس فيها، وغالبًا
ما يجتمع فيها الناس بسبب العرق الواحد، أو الطائفة الواحدة، وبالتالي يكون من
السهل اجتماعهم على فكرة واحدة، وغالبًا ما يكون سلوكهم متشابهًا إلى حد كبير،
ويؤثر بعضهم في بعض بشكل ملحوظ.
على
العكس من ذلك المدينة، لم أقف على أصل لها في المعاجم، وليس فيها إلا كلمة مدينة،
لكن بمحاولة قياس الكلمة على الكلمات ذات الجذر الثنائي الميم والدال، وتتبع
الكلمات قدر الإمكان، مثل كلمة مدر، ومعناها طين متحبب (غير متجانس)، وكلمة مدس
كما ذكر ابن دُرَيْد، معناها الفرك والدلك، وهو أيضًا يذهب إلى معنى عدم التجانس،
وكلمة مدق ليس لها إلا معنى واحد، فيقال
مدق الصخر أي: كسر الصخر، وهنا أيضًا جعله غير متجانس.
اعتمادًا على هذا القياس يمكن أن نقول إن كلمة المدينة
هي مكان يجتمع فيه الناس، ولكن خليطًا من البشر المختلفين، بالتالي خليط من
الأفكار والسلوك المتباين.
كتاب
الله يدعم هذا الرأي، فلو نظرنا إلى مكة نموذجًا للقرية، ويثرب نموذجًا للمدينة
تتضح الرؤية ؛ فمكة كان غالبًا على أهلها النسيج الاجتماعي الواحد (أغلبها لقبيلة
قريش) وسلوكهم واحد في معظمه، ثم كيف أن رسول الله ظل عشر سنوات يدعوهم وما زادهم
ذلك إلا عنادًا وكبرًا، وما استطاع خلخلة هذا النسيج بشكل كبير على مدار العشر
سنوات، إذ تقول المصادر إن عدد من اتبع الرسول في فترة مكة لم يتعد 150 فرد. عندما
فكر في الذهاب إلى الطائف، وهي أيضًا قرية لم يستمع إليه أحد لأنها نسيج متماسك،
ومن الصعوبة بمكان غزوه فكريًّا وإحداث تأثير يذكر فيه. في حالة المدينة التي كانت
تحوي أخلاطًا من الناس والأفكار والسلوكيات (قبائل الأوس، والخزرج، وقبائل اليهود)
سنجد أن تقبل الأفكار والتنوع هو السائد.
فى
القرآن إشارات واضحة عن أهل القرى الذين اجتمع فيهم السلوك السيئ فاستحقوا العذاب،
وعلى النقيض أهل القرى الذين اجتمع فيهم السلوك الخير فكان ذلك سببًا لتنزيل
البركات والنعم؛ ولأن الموضوع طويل جدًّا
سأكتفي هنا بذكر خمس آيات من كتاب الله توضح استحقاق العذاب على القرى.
﴿إِنَّا
مُنْـزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ
بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ (سورة العنكبوت الآية : 34).
﴿وَكَمْ
أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ
مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلا وَكُنَّا نَحْنُ
الْوَارِثِينَ﴾ (سورة القصص الآية : 58).
﴿وَمَا
أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا
بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾ (سورة سبأ الآية : 34).
﴿وَكَذَلِكَ
مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ
مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ
مُقْتَدُونَ﴾ (سورة الزخرف الآية : 23).
﴿وَكَأَيِّنْ
مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا
حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا﴾ (سورة الطلاق الآية : 8).
إذا
كانت الآيات السابقة تعزز فرضية استحقاق المجتمعات المتوافقة على الانحراف والسلوك
الشاذ على العذاب من خلال الكوارث طبيعية؛ فهناك إشارة في كتاب الله تدعم بشدة
تنزيل البركات إذا استقامت المجتمعات واتبعت الفطرة السليمة.
﴿ضَرَبَ
اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا
رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا
اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُون﴾ (سورة النحل
الآية : 112).
الموضع
الوحيد في كتاب الله الذي جاء فيه الهلاك موجهًا للمدينة هم قوم ثمود، فقد أخبرنا
القرآن أن فيها فريقين يختصمان (دلالة على التنوع كما قلنا)، ولكن على ما يبدو أن
الفريق صاحب السلوك المنحرف هو السائد، لذلك كان استدراج الله لهم ليستحكم السوء
فتنزل بهم الكارثة.
﴿وَلَقَدْ
أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا
هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ﴾ (سورة النمل الآية : 45).
سنأتي
إلى قصة ثمود وكيف استدرجهم الله، سبحانه وتعالى، بالناقة حتى يحق عليهم العذاب في
السطور القادمة.
﴿وَفِي
مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (38) فَتَوَلَّى
بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ
فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا
عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ
إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ
تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِن
قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ
كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ (سورة الذاريات الآيات : 38- 46).
استدراج قوم فرعون بعيدًا عن أهل المدينة
هذا
مثال للمجتمع المتباين والمختلف ذي الأخلاط، ليس شبيهًا بمجتمع القرية ذي النمط
الوحد. هذه المجتمعات تعاني شظف العيش وقلة البركات عندما يسود فيها السلوك
المنحرف. هلاك هذه المجتمعات ككل أمر لم يرد في القرآن بسبب تنوعها. على الجانب
الآخر يظهر التدخل الإلهي عن طريق استدراج الفئة الطاغية لحتفهم، كما حدث مع فرعون
وقومه. لقد استكبر فرعون هو وجنوده ولكن هناك في هذا المجتمع مستضعفون لا يشاركون
فرعون وقومه نفس درجة الكفر والسوء. من هنا كان مكر الله سبحانه وتعالى عن طريق
استدرج هذه الفئة الباغية لليم ليغرق هو جنوده.
الآيات
التي أصابت قوم فرعون لم تكن آيات مهلكة بسبب عدم توافر القدر الكافي من السلوك
السيئ في هذا المجتمع المتباين، والذي يضم بجانب فرعون وجنوده كما قلنا، جانبًا من
المؤمنين بموسى عليه السلام فلم يحدث أن أصابتهم كارثة أو مصيبة مهلكة، وإنما هي
مصائب دون الهلاك مثل القحط والجوع.
﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ
وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلَاتٍ
فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ﴾ (سورة الأعراف الآية : 133).
بقاء
المصلحين وسط المنحرفين هو مدعاة لإصابة المصلحين - على أقل تقدير - بالقحط وضيق
العيش بسبب ما يُرتكب من شرور وانحراف؛ وفي الوقت نفسه يمنح متنفسًا ونجاًة
للمنحرفين بألا تنزل بهم كوارث بما كسبت أيديهم. لذلك كانت حرية التنقل التي حث
عليها القرآن، ورغَّب فيها الخالق بالابتعاد عن المجتمعات المنحرفة، التي لا
تستبين الحق من الباطل. هذه الهجرة أو هذا الحق في التنقل يمنح المصلحين فرصة أفضل
بعيدًا عن هذا السوء، ويسمح للقوانين الكونية والأقدار التي قدرها الله في هذا
الكون أن تعمل عليهم وتهلكهم وتجتث هذه البؤرة الخبيثة.
قوم ثمود والناقة
قوم
ثمود كما ذكر القرآن، مجتمع مدينة فيه فريقان يختصمان، وهو دليل على التنوع
والتباين. ما كان إرسال الناقة إليهم إلا استدراجًا من الله حتى يعقدوا النية على
المكر فتتوافى القلوب على عقد النية وتجتمع على الانحراف فيستجلبوا الكارثة التي
تدمرهم وتهلكهم؛ وما كان إرجاؤهم إلى حين إلا بسبب الفريق المؤمن أصحاب القلوب
السوية. ﴿وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ﴾ (سورة
الذاريات الآية : 43)
فلما عتوا وأصروا كان لازمًا أن تتوافر الكتلة
الحرجة، التي معها تتحرك الريح فتدمرهم. لقد كان أمر الناقة استدراجًا لهم لتنعقد
القلوب على المكر ويصلوا إلى قدر من السلوك المنحرف، يكفي لإحداث تأثير بيئيٍّ
ملحوظ. وقد كان، وتحركت الريح بإذن ربها وقوانينه وأسبابه لتقتلع هؤلاء القوم،
ويخبرنا ربنا عزوجل أنه أنجى القوم المؤمنين.
﴿
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ
فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ
تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ
اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ
قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ
فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (48)
قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ
لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49)
وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) فَانظُرْ
كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ
أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ
لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا
يَتَّقُونَ (53)﴾ (سورة النمل الآيات : 45- 53).
يبرز
سؤال في مسألة هلاك ثمود وهو مع أن الذي قتل الناقة هو شخص واحد إلا أن العذاب
شملهم جميعًا!. عن طريق قراءة الآيات التالية الكريمة تتضح القصة:
﴿إِنَّا
مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27)
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ ۖ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ
(28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَىٰ فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي
وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا
كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ
مِن مُّدَّكِرٍ (32)﴾ (سورة القمر : الآيات 27-32).
لقد
كان إرسال الناقة هو عملية من عمليات المكر الإلهي لهؤلاء القوم حتى تنطبق عليهم
القوانين المسيرة للكون، والتي وضعها الخالق، فكل حركة فيها وكل لفتة بقدر
وبقانون. فلما جاءتهم الناقة، وحُدِّد وقت الماء بينهم لم يعجب هؤلاء القوم الأمر
الإلهي، ومع ذلك لم يجرؤ أحدهم على فعل صريح يعلن من خلاله العصيان والرفض
والاعتداء. فعندما قرر أحدهم أخذ زمام المبادرة بقتل الناقة، لم ينهه الآخرون،
ولكن يبدو أن قلوبهم كانت معه توافق وتؤيد. عند هذه اللحظة أصبحت القلوب معقودة
على الاعتداء ومشاركة في هذا السلوك المنحرف، حتى وإن لم تشترك بشكل مادي. عندما
صارت القلوب مع الظلم الواقع وغابت الحاجة الداخلية للإصلاح، تحققت المعادلة
واستحق هؤلاء الناس أن تحل بهم الكارثة.
قوم نوح وجينات الكفر:
لنا مع
قصة نبي الله نوح وقفة، ولنستعرض الآيات أولًا: ﴿وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ
عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا
عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا. (27)﴾ (سورة نوح الآيتان : 26، 27). من المعلوم أن
نبي الله نوحًا ظل يدعو قومه لتوحيد الله وترك المنكرات أمدًا طويلًا، فلم يستجب
له طيلة هذه المدة إلا النذر اليسير. عندما أدرك أنه لا فائدة من دعوتهم دعا ربه
أن يهلكهم لأن في بقائهم ضررين:
أولهما:
التأثير المستحث
التأثير
المستحث هو انتقال التأثير من شيء إلى شيء آخر؛ في حالتنا يعني انتقال تأثير
السلوك المنحرف من قلوب المنحرفين إلى قلوب أصحاب السلوك السليم فتنتكس وتعطب
القلوب السليمة. بعبارة أخرى السلوك المستحث هو قدرة السلوك النفسي المنحرف، في حالة
كونه سائدًا، على تحفيز السلوك القويم إلى الانحراف. إذا كان أصحاب السلوك المنحرف
بالكثرة، بحيث يصبح تأثير السلوك المنحرف متغلبًا، فهناك احتمال كبير أن يتأثر من
في محيطهم بسلوكهم السيئ.
الموجات
الكهرومغناطيسية لجسم الإنسان تؤثر وتتأثر بمحيطها؛ فالمقصود بتأثير السلوك
المنحرف ليس تأثيرًا مجازيًا وإنما تأثير فيزيائي، يدفع أصحاب السلوك المنحرف
أصحاب السلوك القويم لنفس السلوك المنحرف. لو حاول أصحاب السلوك القويم المقاومة
فإن الحالة النفسية تبدأ في الاضطراب مما يسبب أحاسيس وشعورًا تدفع جميعها لانتهاج
السلوك المنحرف، مثل إحساس بالغربة، والاختلاف، والشعور بعدم الاندماج، وأنه شخص
منبوذ؛ ما هذه الأحاسيس إلا تفاعل فيزيائي في النفس البشرية، وإن كانت القوانين
الفيزيائية الحالية لا تستطيع التعبير عنه، فربما قادم الأيام س تكشف لنا الكثير
والكثير.
الضرر الثاني: التأثير البيولوجي.
يلدوا فاجرًاكفارًا! ما الذي دعا نبي الله أن
يقول ذلك؟ هل هو مجرد استنتاج، أم أن للأمر زاوية أخرى؟ فما علاقة النسل الجديد
بما فعله الآباء، ولماذا استخدم لفظ يلد بدلًا عن يربي أو ينشئ ؟
الحقيقة أن فعل يلد أو ولد هو فعل - إن صح أن
نطلق عليه - فعل بيولوجي، بمعنى فعل يصف عملية التكاثر؛ ولكي يتضح المعنى أكثر نجد
أن في القرآن الكريم تعبيرين عن الآباء، إما آباء أو والدان.
يمكن أن يطلق لفظ الآباء على غير الأبوين
البيولوجيين، مثال نبي الله إبراهيم عندما خاطب أباه آزر، وهو في الحقيقة عمه، أما
الوالدان فلا يطلق هذا اللفظ إلا على الأبوين البيولوجيين، فعندما يقول نبي الله
نوح يلدوا، أي أن العملية متعلقة بالجينات والتكاثر. إنه إشارة إلى انتقال السلوك
والطغيان إلى الجينات، إذ يصير السلوك المنحرف جزءًا من التركيب الجيني للإنسان،
لا شك أن هذا التغيير يحتاج مدى زمنيًّا طويلًا وحاجة داخلية للانحراف. هذا
الترتيب الجيني الجديد لا شك سيُورث للأبناء، فيولدوا بسلوك منحرف كذلك، فيصبح
بقاؤهم تهديدًا للنظام الكوني، وتكاثر هذا الجيل مفسدة قد تهدد استقرار المنظومة
الكونية بالكامل.
مسألة
اكتساب الجينات صفات بيئية، وانتقالها عبر الأجيال مسألة ثابتة علميًّا، ولكن
الجديد هنا أن السلوك أيضًا يمكن أن يكون له جينات خاصة به، ويمكن أن تنتقل إلى
الأجيال عبر عملية التناسل، الأمر ليس مستبعدًا، وهناك دلائل كثيرة عليه، وربما
يحتاج لباحثين ماهرين لتتبع وإحصاء مثل هذه السلوكيات عبر أجيال متعاقبة.
قصة قوم لوط
لقد
جاء قوم لوط بفعل لم يكن موجودًا من قبل بنص كتاب الله، وهذا الفعل عندما تفشى
فيهم استحقوا العقاب لأنهم كانوا سابقين في هذا الفعل، ولم ينتهوا أو يرتدعوا، بل
شرعنوا فعلهم، وأصبح هذا الوضع الشاذ في مجتمعهم بمثابة الوضع الطبيعي. عندما أصبح
الوضع المقلوب هو المسيطر، وأصبحت قلوبهم متوافقة على الانحراف ، أصبح وجودهم
خطرًا على البشرية، وليس منه أدنى فائدة، ويمثل عبئًا على النظام الكوني.
﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ
الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ
لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ
مُّسْرِفُونَ﴾ (سورة الأعراف:آيات 80- 81).
سنتوقف
عند هذه الفاحشة التي كان يفعلها قوم لوط، وهل هي أمر طبيعي، كما يقول بعض
المهتمين بدراسة الأمر من الناحية العلمية وأن المسألة جينية بحتة؟
هناك
أبحاث عديدة حول هذا الأمر تقول إن المثلية الجنسية أمر جيني، ولا لا شك أن القتل
كعقاب لهذه الفعلة والذي يتبناه بعض الفقهاء
ليس هو المنهج القرآني السليم، ولقد حث كتاب الله على التعامل مع هذا الأمر
بطريقة مختلفة بشكل أقرب للعلاج منه للعقاب. دعونا نرى كيف عالج المنهج القرآني
هذا الأمربعيدًا عن التحيز المعرفي وعبء العقل الجمعي. الآيات الكريمة التي تتحدث
عن هذا الأمر الآية 15 والآية 16 من سورة النساء.
﴿وَاللاَّتِي
يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً
مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ
يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ (سورة النساء
آية 15).
﴿وَاللَّذَانَ
يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا
إِنَّ اللّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا﴾ (سورة النساء: آية 16).
أغلب
التفاسير تحدثت عن هاتين الآيتن بأن المقصود بهما هو الزنا الطبيعي بين الرجل
والمرأة، وأن هاتين الآيتين قد نُسختا بآية الجلد في سورة النور، والرجم من خلال
السنة. هناك شبه إجماع على أن آية سورة النور نسخت الآيات التي بين أيدينا الآن،
ولكن لو تدبرنا هذه الآيات جيدًا، لوجدنا أن الآيات لا تتحدث عن الزنا الطبيعي،
وإنما تتحدث عن المثلية الجنسية. لفظ اللاتي الذي جاء في أول الآية رقم 15 يقصد به
جمع النساء؛ أي أن الفاحشة بين جمع من النساء. في حالة العقاب نجد أن كتاب الله
حدد أربعة شهود لإثبات هذه الواقعة، فإذا ثبتت الفاحشة على هؤلاء النساء صدر
العقاب الإلهي بحبسهن في البيوت. تعظيم عدد الشهود هو لا شك تنبيه للمجتمع على ان
الستر وعندم تناول الأمر وهو الوضع الامثل. من الواضح أن الآية الكريمة مخصصة للنساء
فقط، وليست كالآية في سورة النور التي جمعت الزانية والزاني: ﴿الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا
تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ
الْمُؤْمِنِينَ﴾ (سورة النور: آية 2). في آية سورة النور جاء ذكر الزنا صراحة،
بينما في الآية التي بين أيدينا جاءت بذكر الفاحشة، وهذه الدقة في التعبير من عظمة
وإعجاز هذا الكتاب العظيم إذ لم ينطبق عليها إسم الزنا.
في
الآية التالية سيصبح الأمر أكثر وضوحًا وبينة، فقد بدأت الآية الكريمة بالاسم
الموصول اللذان الذي يدل على مثنى مذكر: ﴿وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ
فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ
تَوَّابًا رَّحِيمًا﴾ (سورة النساء: آية 16). ألم يسأل العلماء أنفسهم لماذا ذكر
هذا الاسم الموصول الدال على مثني مذكر
بهذه الطريقة؟ ولماذا آية مخصصة للنساء، وآية مخصصة للرجال؟ من خلال سياق الآية
الكريمة نستطيع أن نفهم أن هذه الفاحشة تقع بين الرجال، وهي بالفعل المثلية
الجنسية، التي لم يفرق القرآن فيها بين الفاعل والمفعول، وحدد العقاب الرباني وهو
الأذى، وهذا الأذى يحدده المجتمع مسترشدًا بكتاب الله. في هاتين الآيتين لا يوجد
قتل لأصحاب المثلية الجنسية، وإنما الحل الرباني أقرب للعلاج منه للعقاب.
في
حالة النساء يبدو واضحًا أن مسألة العزل عن المجتمع قد يكون علاجًا لهذه الفاحشة،
وقد يكون قول الله سبحانة وتعالى ﴿أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ المقصود
بالسبيل هو التحقُق من علاجهن من هذه
الفاحشة. لو استطاع العلم بطريقة ما تقرير أن المريضة قد برأت من هذا السلوك قد
يكون هذا هو سبيل الله لها في الخروج وممارسة حياتها الطبيعية.
العقاب
الموجه للذكور كما جاء في كتاب الله هو الإيذاء، وبالتحديد الإيذاء النفسي، وعدم
تقبل الأمر وإظهار ذلك؛ لا أن يتم تقبل الأمر والترويج له تحت بند الحرية الشخصية.
سنتعرف بعد قليل لماذا لا يجب الترويج لهذا الأمر حتى لو سلمنا أن الأمر متعلق
بالجينات؟
لو تتبعا الإيذاء، كما جاء في كتاب الله، ومن
خلال الآيات التالية سنقف على المقصود بالإيذاء،
وهو غالبًا إيذاء بالقول لا بالفعل، وليس فيه قتل أو أي عقاب بدني.
﴿وَمِنْهُمُ
الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ
لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ
آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (سورة
التوبة : آية 61). المقصود بالإيذاء في هذه الآية الكريمة هو الإيذاء بالقول بدليل
قول الله سبحانه وتعالى "يقولون هو أذن" القول بأن رسول الله هو أًذُنٌ
هو في حد ذاته أذى لرسول الله.
﴿إِنَّ
الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا﴾ (سورة الأحزاب: الآية 57).
الإيذاء هنا أيضًا هو قول ولا يمكن تصوره فعل ضد الله ورسوله، وسياق الآيات في
سورة الأحزاب يدل على ذلك، فالغمز واللمز على النساء، والآية التالية تبين ذلك، إذ
إنها في نفس السياق، وهي الآية التالية .
﴿وَالَّذِينَ
يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ
احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا﴾ (سورة الأحزاب: آية 58). لا نحتاج
لتأكيد أن الإيذاء في هذه الآية الكريمة هو كذلك قول.
من
خلال المنهج القرآني يتبين لنا أن العقاب الموجه للمثلية الجنسية هو أقرب ما يكون
للعلاج، فأما الذين ذهبوا لقتل أطراف هذا الفعل، وأولئك المتصالحون مع هذا الفعل
جميعهم سواء في عدم الالتزام بالمنهج القرآني.
الأبحاث
التي تقول أن المثلية الجنسية أمر جيني لن نكذبها، ولكن دعونا نتساءل أليس هناك
كثير من الأمراض متعلقة بالجينات؟ فهل من المفترض تشجيع المرض والتصالح معه، أم
الطريق السليم للتعامل مع وضع كهذا هو محاولة إيجاد علاج له؟ لقد كان الحل الرباني
علاجًا، ولم يكن عقابًا، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
من
خلال قصة نبي الله لوط ومن خلال الآية الكريمة التي أرشدت إلى هذا الفعل، وخصوصًا
قول الله سبحانه وتعالى ﴿أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ
أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ﴾ يبدو جليًّا أن هذا الفعل مستجد على البشرية إذا لم
يكن موجودًا قبل استحداثه من قِبل قوم لوط. فهل هذا السلوك الشاذ انتقل إلى
الجينات عبر الأجيال، كما بينا ذلك من خلال قصة نبي الله نوح؟ لا أستبعد أبدًا
ذلك، وهو انتقال هذا المرض عبر الجينات إلى البشرية عبر العصور. حتى إذا إدعي
انصار المثلية الجنسية أن هذه العملية طبيعية حتى بين الحيونات الأقل مرتبة من
الإنسان، فهذا لا يعني التسليم بطبيعيتها، ولكن بحثاًعميقاً عن أصل هذه المشكلة قد
يقود إلى نشأتها وكيفة معالجتها وليس تشجيعها.
ليس كل
أمر جيني واجب الحدوث، ولكن المعروف أن كثيرًا من المشاكل الجينية لا تظهر إلا في
وجود عوامل مساعدة لظهورها. يبدو من خلال كتاب الله أن هذا الأمر لو لم يتم قبوله
وعولج بالمنهج الرباني لعاد القهقري، ولم يؤذ المجتمع. على العكس من ذلك التصالح
مع أمر كهذا بل وتشجيعه يعطي دفعة وتحفيزًا للآخرين أن يسيروا في نفس الطريق،
وبدلًا من علاج بعض الحالات الفردية يصبح الأمر كالوباء. خطورة هذا الأمر على
مستقبل البشرية ربما لا يدركها أرباب الحرية الجنسية، ولا يحسبون عواقبه، فعندما
يكتفي كل طرف بمثيله تصبح البشرية على أهبة الانقراض، ولن ينفعها وقتئذ علاج
المصلحين. بالطبع نتمنى ممن يتبنون التصالح مع هذا الأمر على أنه أمر جيني، أن
يدركوا هذه الحقيقة وأن يكفوا عن تشجيع المرض على الانتشار. نسلم لهم أنه أمر جيني
ولكن ليس هذا هو الوضع الطبيعي، وهو أمر لو تصالح المجتمع معه كما يرغبون، لكان
عامل حفز وتنشيط لجينات الآخرين، وبدلًا
من علاج ومساعدة المبتلين، سنجر على البشرية مزيدًا من المشاكل التي هي في غنى
عنها. التوجيه القرآني اللطيف في هذا الفعل هو أشبه بتربية الأبناء حتى يتعودوا
السلوك القويم، وليس إقصاءهم وإبعادهم. عندما تنهر ابنك عندما لا يقوم بغسل يديه
أو يفعل أي سلوك غير طيب فأنت في الحقيقة توضح له أن هذا الفعل مستقذر، وأنه لا
يجب فعل ذلك. سيراجع الطفل نفسه مرات قبل فعل يعلم جيدًا أنه غير مرحب به مما يعدل
سلوكه. على العكس من ذلك تمامًا لو لم تفعل بل تساهلت مع أفعاله وشجعتها فسيخرج
يحمل القذارة في سلوكه ويورثها لأبنائه. بالقطع ليس بعيدًا إذا تعود الإنسان
القذارة أن تنطبع في جيناته ويتم توارثها، وكما ذكرنا من قبل أن توارث السلوك أمر
وارد علميًّا. هل إذا ثبت علميًّا أن قذارة الشخص أمر جيني هل من المفترض التسامح
معها، أم الطريق الأفضل هو محاولة علاجها، وإعادة الإنسان للوضع الطبيعي. بقدر ما
نحذر من الانجراف خلف موروث القبيلة، وتجاوز حدود الله في تغليظ العقاب، بقدر ما
نحذر أيضًا من التهاون ومحاولة تَقبل الشذوذ، والانحراف في السلوك بدعوى الحرية الشخصية.
إذا كانت الحرية الشخصية ذات تأثير سلبي على المجتمع، فيجب أن يقف المجتمع في
وجهها وينظمها لا أن يتساهل معها حتى تُهلك الجميع.
نهاية العالم:
الفصل
الأول تحدث عن نهاية العالم إذا ظن الإنسان أنه قادر على التحكم في كل شيء، وفي
غير حاجة للإله. صدى هذه لفرضية في هذا الفصل واضحة بشكل كبير. العالم في حالة
تسارع معرفي ومعلوماتي لم يسبق له مثيل، وعند وصول الإنسان لحالة التحكم في كل شيء
مثل الظواهر الطبيعية، وغيرها سيغلب على ظنه أنه أصبح قادرًا ومهيمنًا على كل ما
حوله؛ وظن القدرة مع قطع الصلة بالله هو عين الكفر، فإذا أعلن إنسانُ ذلك العصر،
قطع صلته بالله وأصبح من يسيرون في هذا الركب كُثر فإن القلوب تبدأ في الانقلاب،
ويصبح مجالها متنافرًا وغير منسجم مع الكون من حولها. مع اطمئنان الإنسان لقدرته
هذه وثقته، تبتعد القلوب أكثر فأكثر ويمكن أن ينطبع هذا الشعور في الخلايا
الوراثية، فلا يلدوا إلا منتكسي الفطرة. عند هذه النقطة تكون النهاية وإعلان عدم
صلاحية الإنسان ليعمر هذا الكون، ومن ثم يبدأ انهيار النظام الكوني بسبب الانهيار
الفطري للإنسان. التكوين الفطري مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالكون، وانهياره ينذر
بانهيار الكون. هذا التعبير ليس مجازيًّا أبدًا، أنا هنا أعني الارتباط الفيزيائي
بكل ما تحمل الكلمة من معنى، انتكاس الفطرة معناه أن القلوب تعمل جميعها في اتجاه
عكس الاتجاه الطبيعي، ولا يمكن مع هذا الخلل في أحد المكونات الأساسية للكون
الاستمرار، فستتحطم المنظومة، والكون لا محالة سينهار.
الاستغفار وتأثيره المادي:
ما
علاقة الاستغفار بالتأثير في المادة؟ كل الإشارات في كتاب الله لها مدلول وإشارة،
ونحن هنا نحاول قدر استطاعتنا وبقدر ما توافر لدينا من معلومات أن نستنتج فكرة،
لعلها تكون فاتحة لأفكار جديدة.
يقول
الله سبحانه وتعالى في سورة نوح: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ
غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا
(11) وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ
وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا (12) ﴾ (سورة نوح الآيات : 10- 12).
ما
علاقة الاستغفار المعنوي بالرزق والأموال ؟ الاستغفار هنا لا يمكن بحال من الأحوال
أن يكون ألفاظًا يقذف بها اللسان، ولكن هو إرادة ونية عقد القلب عليها العزم؛ فإن
كانت أحوال القلب مضطربة فالاستغفار هو محاولة جادة لإعادة ضبط ترددات القلب،
ومحاولة جادة للاتصال بالصانع حتى يعود القلب إلى وضعه الطبيعي منسجمًا مع الكون
من حوله، إن هذا الانسجام التام مع الكون، هو السبب الرئيسي لكي تصبح حياتك جنة
بالمعنى الحقيقي للجنة .
﴿وَلَوْ
أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن
رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ۚ مِّنْهُمْ
أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾ (سورة
المائدة: الآية 66).
لا
يمكن أن يكون ربط إقامة التوراة والإنجيل بتدفق الرزق المادي هنا جاء هكذا، فنحن
نحيا مع الأسباب وكل شيء بقدر، فإصلاح عيوب القلب يتبعه إصلاح المنظومة الكونية
كلها لتتحول الحياة لجنة حقيقة.
إن
دراسة مثل هذا الأمر يمكن أن يقود إلى فتوح جديدة كليًّا، إذ يمكن التعرف على
القوة الكامنة للدعاء والحالة النفسية المصاحبة، وعلاقتها بالقوى الكونية. كثير من
الناس يشتكون من عدم استجابة الدعاء وهناك مقولة منسوبة لإبراهيم بن أدهم يقول
فيها عندما سأله أحدهم لماذا ندعو ولا يستجاب لنا، فقال لهم لأن قلوبكم ماتت بعشرة
أشياء. الحقيقة أن إبراهيم بن أدهم قد توصل لحقيقة الأمر وسر عدم قبول الدعاء، وهو
موت القلوب أو حتى انصرافها، الحل هو محاولة ربط القلوب مرة أخرى بخالقها وضبط
بوصلتها.
كثير
من مدربي التنمية البشرية يعتقدون أن الإنسان إذا اعتقد في أمر بشدة فسيحدث، وهذا
الأمر تبعًا لنظريتنا صحيح إلى حد كبير، ولكن الإنسان لكي يعتقد في الأمر بنفسه
معتمدًا على قدراته الخاصة فهذا صعب للغاية يحتاج لترويض وتمرين ليس هينًا، لكن
بشيء من محاولة ضبط ترددات القلب على الترددات الفطرية، سواء بالاستغفار أو
الدعاء، يمكن تحقيق الأمر بسهولة ويسر. إذا كان السلوك المنحرف يزعج الطبيعة
والكون من حولنا بقدر ما، فلا شك أن الانسجام مع الكون من حولنا مدعاة لأن يفيض
هذا الكون بالخير لأصحاب القلوب المخلصة. يجدر بنا الإشارة إلى أن أصحاب القلوب
المنحرفة إذا كانوا قلة في مجتمع ما فلا شك سيصيبهم من الخير والرخاء ما يصيب
الآخرين. بخلاف إذا تغلَّب أصحاب السلوك الشاذ عددًا وعدة ويقينًا على أصحاب
السلوك القويم، فسيصيب الخراب والدمار الجميع بلا استثناء.
يبقى
أن نشير إلى أن عملية الاستغفار وعملية التوبة ليست عملية سهلة، بل هي تدريب وحاجة
داخلية حقيقة. لا بد أن ينبع طلب المغفرة من الداخل حتي يؤتي أكله، ويصبح القلب
مرتبطًا بشكل وثيق مع النظام الكوني. عملية إيهام الناس أن عملية الاستغفار عملية
بسيطة، وأن قصور الجنة تنتظر من يردد مائة مرة أستغفر الله العظيم دون الإشارة
لتوافر الحاجة الداخلية للإنسان، ودون ربط القلب بعملية الاستغفار هو تسطيح مخل
بهذه العملية، ولن يجر إلا مزيدًا من الخبل النفسي والتردي على هذه الأمة. إذ
يعتقد الإنسان أن كل شيء يمكن أن يزول بمجرد ترديد مجموعة من العبارات، وأن الجنة
في انتظاره بمجرد الانتهاء من عملية عد المائة تسبيحة أو مائة استغفار. هذا
التهاون في أمر ارتباط القلب وتأثيره الحقيقي
وتأثره من خلال كل قول يصدر عنه ستنجب تدينًا ظاهريًّا، ظاهره الدين ومن قِبَلِهِ فراغ
لا نهائي.
كل
جملة استغفار تحتاج أن تستحضر عظمة الخالق، وتستحضر جرمك، وتعقد العزم على
الإقلاع، تندم وتتعهد بالالتزام. رب استغفار مرة واحدة يضبط القلب تجاه خالقه خير
من ألف استغفار من قلب فارغ. حاول أن تصل إلى الله بقلبك وتجاهد نفسك على ذلك
بدلًا من التشاغل بالعد والإحصاء، وعد قصور الجنة مقابل حفنة أقوال . فكما لا
يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن بما كسبت قلوبكم، فكذلك الأعمال الصالحة لن
يصعد منها إلا الطيب الصادر من القلب، ويبقى اللغو يذهب جفاءً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق