Translate

الفصل العاشر - وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا

الفصل العاشر

وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا

صاحب العلم الحقيقي يرى ما لايراه الآخرون، ويجب عليه أن يقوم بما يجب عليه فعله، بغض النظر عن نظرة الناس لما يفعل وما يترتب على فعله، فهؤلاء الناس لا يعلمون ما يعلم، ولا ينظرون إلى ما ينظر. سيدرك الناس بعد مدة أن ما فعله العبد الصالح كان صوابًا وكان لا بد من فعله. هكذا دائمًا أصحاب العلم يسبقون بخطوة أو قل بخطوات، يدركون ما لا يدركه العامة، ويستنتجون ما لا يستطيع العامة الوصول إليه، فلا يمنعهم لوم المجتمع على فعل ما يلزم، ولزوم ما يعلم.

 

هل الإنسان قادر على علم الغيب؟ هناك دلالات وإشارات على أن كثيرًا من الأمور الغيبية يمكن استكشافها عن طريق العلم، سواء كان هذا الغيب من الماضي أو من الحاضر أو حتى من المستقبل. ليس حديثًا يفترى، ولكن تصديق كتاب من لدن حكيم خبير.

القصة الأشهر على الإطلاق، قصة العبد الصالح، الذي التقاه نبي الله موسى ليتعلم منه علمًا لم يتعلمه من قبل؛ ثلاثة مشاهد قصها كتاب الله، تحمل الكثير من التساؤلات، وتفيض بالدلالات لدرجة أن نبي الله موسى لم يستطع صبرًا. لقد أنهى فضول المعرفة لدى نبي الله موسى هذه العلاقة قبل أن تبدأ. لقد خُلق الإنسانُ عجولًا في فهم وإدراك ما غاب عنه، بسبب هذه العجلة قد يُفوّت الإنسان على نفسهِ معارف لا حصر لها، كم واحد منا تمنى لو أن نبي الله موسى لم يسأل العبد الصالح شيئًا، واستطاع صبرًا ليقص علينا القرآن مواقف ومشاهد أخرى عديدة ومتفردة.

ثلاثة مواقف تعرض لها العبد الصالح، أولها كان موقفًا مليئًا بالإحسان، وثانيها موقف متعادل لا إحسان ولا إساءة، وثالثهما موقف إساءة. ومع ذلك عمل بما يعلم دون اعتبار لوجهة نظر من لا يعلم، في المقابل نبي الله موسى لم يطق صبرًا، وفي كل موقف كان يتدخل بالاستفسار المحمل باللوم، مع أنه كان بين الرجلين عهدًا ووعدًا بعدم التعجل والصبر، حتى يوضح له الأمر. لقد برزت إشكالية في هذه القصة العظيمة، وتساؤل مشروع.. هل الرسول والنبي عالم، وهل يمكن أن يكون هناك حتى في نفس الزمن من هو أعلم منه؟

الإجابة مثل الشمس في كبد السماء، تبليغ الرسالة شيء والعلم شيء آخر، وهذا نبي الله موسى مع قدره العظيم إلا أنه اتبع العبد الصالح الذي قال عنه ربه ﴿ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا﴾ آيات عظيمة في سورة الكهف أخبرتنا أحسن القصص منذ أن التقى نبي الله موسى العبد الصالح وحتى تفرقا؛ لأن موسى عليه السلام لم يستطع صبرًا.

﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ۖ قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا(71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي ۖ قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا (76) فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ ۖ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا(77) قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ۚ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا (82)﴾ ( سورة الكهف: الآيات 65-82).

خلط مفهوم العلم بمفهوم المعرفة جعل الكثيرين لا يفرقون حقيقة بين أصحاب العلم وأصحاب المعرفة.  لقد صار كل من نقل حديثًا أو نقل رأي عالم هو عالم برغم أنه لم ينتج شيئًا يذكر ، وصار كل مجدد أو صاحب فكرة أصيلة ضالًّا يجب اجتنابه. عدم فهم الفروق بين العلم والمعرفة أنتج واقعًا مستقرًا بالمفهوم السلبي، واقعًا يضطهد التفكير ويعادي التغيير، ويري الأمان فيما يعرف. لو فهم الناس هذا الفرق ما تجرأ القاصي والداني على وصف المفكر بكل النعوت القبيحة، وكأننا في العصور الوسطى التى ترى كل خروج على السائد يهدد وجودها. العلم أعظم ما أُعطي الإنسان، فبينما نال صاحب العلم أعظم تكريم عندما قال الله في حق العلماء:

﴿وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ (سورة فاطر:ة آية 28). نجد أن أصحاب المعرفة في خطر داهم، وعلى حرف لو ركنوا إلى هذه المعارف دون اختبار .

﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ﴾ (سورة النحل: آية 83).

﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ (سورة الأنعام : آية 20). معرفة بدون علم خطر داهم. أصحاب المعرفة فقراء العلم عدائيون، لا يقبلون غير ما يعرفون لا يشعرون بارتياح تجاه من يصحح لهم ما يعرفون ويحاربون كل من يثبت لهم خطأ ما يعتقدون. في كتاب تاريخ العلم يقول راسل عندما اكتشف جاليليو التلسكوب واكتشف الكواكب، رفض التقليديون النظر خلال التلسكوب اعتقادًا منهم أنه حيلة لهدم معتقداتهم، هكذا كثير من أصحاب المعرفة الموروثة يرفضون الدليل والبرهان حفاظًا على بنيتهم المعرفية من الانهيار.

المعرفة قائمة بالأساس على موروثات لم تختبر ومسلمات أغلبها ليس عليها دليل أو برهان سوى تأكيدات السابقين. بينما العلم يستخدم المعرفة أحد معطياته خلال عملية من التحليل والاستنتاج والاستنباط لاستخراج فائدة جديدة. لقد نال العبد الصالح نوالًا أحب من الدنيا وما فيها؛ فقد حاز علمًا ورحمة من الله غلفت ذلك العلم وأهلته أن يكون المعلم لنبي من أنبياء الله، صلوات ربي عليهم أجمعين. ثلاثة مشاهد عظيمة سنعيشها مع نبي الله موسى والعبد الصالح تروي الكثير والكثير.

المشهد الأول

سفينة قدم أصحابها معروفًا للعبد الصالح وضيفه بأن حملوهم معهم؛ يبادر العبد الصالح رغم هذا المعروف إلى خرق السفينة وإعطابها، ما فعل ذلك إلا بعلم، فقد رأى بالمعطيات المتاحة له أن ملكًا خلفهم يصادر السفن، فقرر على الفور أن يعطبها رحمة بهؤلاء المساكين. صاحب العلم الحقيقي يرى ما لايراه الآخرون، ويجب عليه أن يقوم بما يجب عليه فعله، بغض النظر عن نظرة الناس لما يفعل وما يترتب على فعله، فهؤلاء الناس لا يعلمون ما يعلم ولا ينظرون إلى ما ينظر. سيدرك الناس بعد مدة أن ما فعله العبد الصالح كان صوابًا وكان لا بد من فعله. هكذا دائمًا أصحاب العلم يسبقون بخطوة أو قل بخطوات، يدركون ما لا يدركه العامة، ويستنتجون ما لا يستطيع العامة الوصول إليه، فلا يمنعهم لوم المجتمع على فعل ما يلزم ولزوم ما يعلمون. برغم الإحسان الذي تلقاه الرجل لم يمنعه الضغط المجتمعي من نفاق العامة، بل فعل ما يتوجب عليه فعله في الحال، بينما سيرى الناس ما فعله العبد الصالح قمة الجحود والنكران، إلا أن الحقيقة تقول إن هذا الفعل يحمل قمة الرحمة لهؤلاء المساكين الذين يعملون في البحر، إذ أنقذ السفينة من بين براثن هذا الملك الغاصب، بأن صنع فيها عيبًا ظاهرًا يجعل الملك يزهد فيها، ومن ثم يصلح المساكين هذا العيب ويحفظوا سفينتهم. تدلنا الآيات الكريمة التي وصفت هذا المشهد على أن القرار كان قرار العبد الصالح بشكل كامل، إذ قال أردت مستخدمًا تاء المتكلم ﴿فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا﴾ بعكس الآيات التالية التي توحي أن القرار لم يكن قراره منفردًا. عندما توافرت لديه معلومات كافية استطاع تحليل واستنتاج ما يمكن أن يحدث، فقرر إحداث عيب في السفينة هو بالتأكيد عيب ليس خطيرًا، بدليل أن السفينة لم تغرق. لم يرد أي ذكر لغرق السفينة، لقد كان فقط عيبًا ظاهرًا حتى تبدو غير صالحة فيتركها الملك الغاصب ويرحل بعيدًا عنها.

هذا المشهد القرآني يتحدث عن علم متعلق بالغيب، إنه غيب مكاني في نفس الزمن؛ إذ إن السفينة والملك في نفس الزمن، ولكن بقعتين جغرافيتين مختلفتين، فكلاهما غيب بالنسبة للآخر؛ بالعلم الذي يعمل من خلاله العبد الصالح استطاع التغلب على الغيب المكاني واستجلائه، هذا النوع من الغيب لم يعد الآن معضلة، إذ أمكن التغلب على هذا الغيب الجغرافي من خلال تكنولوجيا الاتصالات والأقمار الصناعية، وفكَّت رموز هذا النوع من الغيب. لا شك أن ارتباط العبد الصالح بالعلم وليس مجرد وحي لهو إشارة إلى  أن العلم قادر على فك رموز ذلك الغيب الجغرافي، لقد أصبح اليوم لدينا القدرة على معرفة ما يحدث في بقعة أخرى تبعد عنا آلاف الأميال وفي نفس وقت حدوثها عن طريق العلم، ولو أن إنسانًا منذ قرنين من الزمن قال إنه يمكن كشف الغيب الجغرافي أو المكاني في نفس اللحظة لاتهمه الآخرون بالجنون، ولو ربط تأويل هذا المشهد القرآني على أنه ربما يكون إشارة على أن الغيب المكاني يمكن فك طلاسمه بالعلم لربما اتهمه أصحاب وجهة النظر الأحادية بالزندقة؛ هل المشاهد الأخرى في الآيات الكريمة تحمل دلالات وعلامات يمكن أن تقودنا لمعارف في المستقبل، إن كان قد فاتنا استغلال المشهد الأول.

المشهد الثاني

الغلام الذي لا تربطه أي علاقة بالعبد الصالح، سواء بشكل إيجابي أو بشكل سلبي، ومع ذلك أقدم الرجل على قتل الغلام؛ لقد قتل العبد الصالح الغلام بمقتضى علم معين استطاع من خلاله الحصول على معلومات عن غيب زمني في اتجاه المستقبل. في هذه الآية الكريمة تحول خطاب العبد الصالح من خطاب المتكلم المفرد إلى استخدام نا المتكلمين في كلمة فخشينا وكلمة أردنا، التي توحي أن هناك مشاركة ما في العلم والقرار: ﴿فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا"، "فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ﴾ القول إن المشاركة كانت مع الله هو قول لا يصح، فالله سبحانه وتعالى لا يشارك أحدًا وإنما يريد ويوحي ويشأ كما سنرى في المشهد الثالث.

كل ما يمكن أن نقوله إن القرار لم يكن فرديًّا كما في الحالة الأولى، ربما لصعوبة الموقف، ويبدو أن هناك معاونين للعبد الصالح، وإن كنا لا نستطيع الجزم بذلك، إلا أن التكلم بصيغة الجمع يدل على ذلك، وخصوصًا أن الحديث في الآية الأولى كان بصيغة المفرد.

هذا النوع من الغيب المستقبلي تَكَشفَ منه جزء ليس بقليل من خلال العلم والمعارف المتراكمة. في مجال المناخ والطقس أصبح التنبؤ بالظواهر المناخية أمرًا عاديًّا، وكذلك حركة الشمس والقمر والظواهر المصاحبة لهما أمكن من خلال العلم التنبؤ بالأحداث بشكل بالغ الدقة. على صعيد الإنسان وخصوصًا على المستوى الفسيولوجي، أصبحت القدرة على اكتشاف الخلل الجيني، الذي يمكن أن يؤدي إلى تشوهات جينية، أو قد ينتج طفلًا غير قادر على الحياة بشكل طبيعي في أسابيع الحمل الأولى أمرًا عاديًّا من خلال اختبار المادة الوراثية للجنين، هذا النوع من العلم استطاع بشكل كبير اكتشاف الغيب في حياة هذا الطفل، واستطاع اكتشاف الخلل الذي قد يصيبه إذا استمر الحمل بشكل طبيعي.

المشهد القرآني يتحدث عن خلل سلوكي، وليس خللًا جينيًّا في هذا الغلام قد يسبب طغيانه وكفره. أستطيع قراءة هذه الآيات في سياقها، وأنها إشارة للبشر على أن القدرة على التنبؤ بالسلوك في المستقبل قد يكون قريب جدًّا، وبناء على علم محدد وليس مجرد تخمينات، تقوم على قدرات غير مقاسه ولا يمكن الاعتماد عليها. ربما يسبق هذا العلم فهم علاقة السلوك النفسي بالجينات، أو تحديد مراكز معينة أو ارتباطات جينية معينة مسئولة عن السلوك الإنساني.

 دعونا نفترض أن مثل هذا العلم قد أصبح متاحًا، وأن الإنسان تمكن من معرفة إمكانية شذوذ السلوك الإنساني قبل حدوثه بمراحل، فهل ذلك يعطينا الحق في قتل هذه النفس؟

طرح كهذا بالتأكيد هو طرح مثير للجدل، ولكن لو استطعنا فهم هذا الأمر من زاوية أخرى قد يكون الأمر مختلفًا، وخصوصًا في ظل تطور البشرية. إذا تمكن الإنسان بالفعل من فهم السلوك المستقبلي للإنسان فالعلم نفسه هو ما سيتيح معالجة الخلل قبل أن يستفحل، أو حتى على أقصى تقدير مراقبة هذا الإنسان عن قرب، أو إيداعه إحدى دور الرعاية لتقويم سلوكه. على غرار ما حدث على المستوى المادي في اكتشاف الخلل الجينى، ومن ثم محاولة علاجه، لا يمكن أبدًا استبعاد نفس الأثر على المستوى اللامادي المتعلق بالسلوك البشري. مرة أخرى يجسد المشهد العمل بالعلم دون اعتبار لوجهة نظر الذين لا يعلمون. لا يشترط أن العلم الذي مكَّن العبد الصالح من كشف الغيب أن يكون كالعلم الذي بين أيدينا، ولكن يكفي أن يكون المشهد إشارة إلى أنه بالعلم يمكن كشف أنواع من الغيب. كذلك لا يمكن أن تكون معالجة العبد الصالح للحوادث التي مر بها هي نفس معالجتنا، وخصوصًا في ظل تقدم البشرية وتطورها. الملك الذي يأخذ ويصادر كل سفينة غصبًا لم يعد له مكان في العالم الحر، ولا يمكن اليوم لحاكم أو ملك أن يصادر أملاك الناس بقرار منفرد ودون تعويض مناسب، وإن كان هذا النموذج ما زال موجودًا في الكيانات غير المتطورة والمجتمعات البدائية. لو حدث هذا الأمر اليوم، فإن المؤسسات المستقلة تستطيع محاسبة ذلك الحاكم أو الملك، إذ لا يسمح له القانون بفعل أمور كهذه دون وعاء قانوني. كذلك لوأتاح لنا العلم مثلًا بيان خلل سلوكي في المستقبل لإنسان فهذا ليس شرطًا أبدًا أن تكون معالجتنا للأمر بنفس الطريقة التي عالج بها العبد الصالح الأمر.

المشهد الثالث

جدار معرض للانهيار، وأهل قرية لئام، ومع ذلك يشمر العبد الصالح عن ساعديه ويعيد ترميم الجدار؛ موقف على النقيض من الموقف الأول تمامًا، فهنا أهل قرية قدموا السوء فبادر الرجل بالعمل الطيب. مرة أخرى إنه العمل بالعلم تحت كل الظروف، حتى وإن بدا العمل غريبًا وغير مستساغ فليس كل الناس على نفس القدر من العلم.

لقد استوقفتني عبارة ﴿فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا﴾، فبينما في المشهد الأول كانت الإرادة صادرة عن العبد الصالح نفسه عندما قال ﴿فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا﴾ وفي المشهد الثاني عندما قال (أردنا) بصيغة الجمع، نجد في هذا المشهد الذي تعرض فيه العبد الصالح للإساءة غابت إرادته الشخصية، ولكن حضرت إرادة الله لكي تنقذ الجدار من الانهيار، متمثلة في فعل العبد الصالح ﴿فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا﴾ يتضح أن العبد الصالح على اتصال مع الله، سبحانه وتعالى، بشكل ما أهله لينفذ إرادة الله بهذا الشكل. هنا المشهد القرآني يمثل علم غيب من الماضي، فكون أبوهما صالحًا، وكذلك وجود الكنز، هو غيب من الماضي بالنسبة للعبد الصالح ونبي الله موسى.

لا شك أن كشف الغيب الماضي أصبح اليوم ميسرًا بشكل كبير، فالكشف عن الآثار أو البترول أو الغاز عن طريق أجهزة استشعار متقدمة، هو قدرة على كشف نوع من الغيب الماضي، وكذلك كثير من التاريخ الإنساني، وتاريخ الحياة على سطح الأرض. استطاع العلم - وأؤكد هنا العلم فقط - كشف غموضه من خلال السجل الأحفوري، أو ما يسمى بالحفريات، وعلم الهندسة الوراثية، وعلم الجينات، وعلم التشريح، وعلوم كثيرة أخرى، استطاع العلم معرفة التاريخ من خلالها.

في هذا المشهد إشارة في غاية الأهمية، وربما قريبًا جدًّا قد يتحول التاريخ الإنساني - وأقصد الخاص بالأحداث - إلى علم مقاس، من خلال أدوات وطرق قياس موثوقة، وليس مجرد وجهات نظر الأشخاص، متأثرة بالواقع السياسي والاجتماعي؛ العلم الذي استطاع من خلاله العبد الصالح معرفة أن (أبوهما صالحًا) ربما يكون إشارة على أن الإنسان يمكنه عن طريق العلم اكتشاف السلوك الإنساني في الماضي، ولربما اكتشف العلم مواقع جينية خاصة بتسجيل الأحداث في الماضي من خلال شفرة معينة. لا أحد على وجه الإطلاق يستطيع التنبؤ على وجه الدقة بما يمكن أن يحمله العلم في هذا الاتجاه، إلا أن كتاب الله يحمل دلالات وإشارات على كون هذا الأمر غير مستبعد.

من لا يملك العلم لا يمكن أن يعد خرق السفينة وقتل الغلام وبناء جدار في قرية لئام أفعال رحمة، وإنما على العكس أفعال قاسية وغير مبررة. ليست كل الأفعال التي ظاهرها القسوة هي كذلك، ولكن كثيرًا منها باطنها الرحمة لو كانوا يعلمون.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الصفحة الرئيسية

ثلاثية تلك الأسباب - الجزء الأول

أكثر الصفحات مشاهدة