الفصل الخامس
جسدًا له خوار
عندما
يمتزج التواضع العقلي بالهوى النفسي، يصبح الإنسان غير قادر على التفريق بين
الكلام والخوار،. يحسب أن مجرد رص عبارات وجمل يتساوى مع فضيلة الكلام القائم على
التفكير المنهجي، والتسلسل منطقي.
استكمالًا
للفصل السباق الخاص بنبي الله عيسى وقدرته على الكلام صبيًّا، سنحاول من خلال هذا
الفصل تتبع الرقي العقلي الذي صاحب البشرية حتى وصلت لمرحلة الكلام بمفهومه
القرآني. كيف انتقل التعبير عن الأفكار من مجرد عبارات بسيطة إلى كلام حسب التعبير
القرآني، وكيف صار العقل البشري قادرًا على فهم المعاني المجردة، والتخلي شيئا
فشيئًا عن التجسيد.
لو حاولنا إيجاد مثال لتوضيح وجهة نظر الكتاب،
وبيان الفرق بين القول والكلام فلن نجد مثالًا أفضل من مثال الرجل العادي
والفيلسوف. بفرض أن هناك فكرة معينة وطلبت من شخص عادي وفيلسوف التعبير عن هذه
الفكرة.
الرجل
العادي سيختار مجموعة ألفاظ عادية للتعبير عن هذه الفكرة دون اعتبار حقيقي للفروق
بين الألفاظ ومدلولاتها، دون اعتناء بتركيب الجملة لتعطي المعنى بإيجاز ودقة
متناهية. على الجانب الآخر نجد الفيلسوف على العكس من ذلك ينتقي ألفاظه بعناية
فائقة ليعبر عن الفكرة تعبيرًا دقيقًا محكمًا، بل ستجد أن كل كلمة تصف حالة معينة
بمنتهى الدقة، نظم الكلمات لديه مقصود وبليغ لكي يعطي حالة رائعة من التعبير عن
الفكرة. هذا هو الفرق بين القول الذي ينتهجه أغلب الناس، ويعبرون عن أفكارهم
بواسطته، وبين صاحب القدرة على الكلام الذي يستطيع الوصول للمعنى، ويعبر عن الفكرة
تعبيرًا صادقًا متقنًا لأقصى درجة.
لقد
انتبه العرب لهذا الفرق عندما ألَّفوا مؤلفات في علم الكلام؛ إذ يهتم هذا العلم
بإثبات وإقامة الأدلة على صحة العقائد عن طريق الأدلة والبراهين اليقينية. علم الكلام
هو في الحقيقة صورة من صور الفلسفة، بل يعتقد البعض أن علم الكلام هو البداية
الحقيقة لظهور الفلسفة الإسلامية.
يبدو
جليًّا أن العقل العربي لديه قدرة على التفريق بين القول والكلام، ولكن هذا الفرق
يكاد يكون مطموسًا تحت وطأة العقول الجمعية، التي لا ترى حاجة لفهم وإدراك الفروق،
وتؤمن بالمترادفات مما ضيع على هذه الأمة رافدً ثقافيًّا ومعرفيًّا، كان يمكن أن
يحل كثيرًا من الإشكالات التى عانت منها هذه الأمة.
من
خلال الفصل السابق ﴿كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا﴾ وضحنا المراحل التي يمر بها
الصغير في تطوير قدراته العقلية حتى الوصول لمرحلة الكلام للتعبير عن أفكاره. يبدو
أن البشرية هي صورة مصغرة لدروة حياة الإنسان، وأنها منذ بدايتها قد مرت بهذه
المراحل حتى وصلت لمرحلة الرقي والتطور، وهذا ما استنتجناه من خلال تحليل اللفظ
القرآني.
كان من
المفترض أن يدخل هذا الفصل ضمن فصول الجزء الثالث من الكتاب، ولكن بسبب ترابط
موضوع الفصل السابق الذي تناول تكلم المسيح وهو صغير، وظهور مرحلة الكلام لدى
البشرية، رأينا أنه من المناسب أنه يُوضعَ في الطبعة الثانية في الجزء الأول على
أن تُفصَّل مسألة التطور، سواء البيولوجي أو المعرفي، من خلال الجزء الثالث من
كتاب تلك الأسباب. والآن دعونا نتساءل كيف بدأ وكيف ظهر الكلام بمفهومه القرآني
لدى الإنسان منذ أن تسلَّم آدم مقاليد الأمور؟
مرحلة آدم عليه السلام
تتبع
الكلام وظهوره من خلال القصص القرآني، يمنحنا فرصة ثمينة لفهم تطور البشرية ورقيها
العقلي، وكيف وصلت من مجرد التعبير البسيط عن الفكرة إلى مرحلة الكلام والفلسفة.
أول ظهور للفظ "كلم" كان مع نبي الله آدم عندما تلقى آدم من ربه كلمات.
آدم لم يصدر هذه الكلمات، وإنما تلقَّاها من ربه مباشرة كما سنرى.
﴿فَتَلَقَّى
آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ
الرَّحِيم﴾ (سورة البقرة: آية 37).
بعدما
تعلم آدم القدرة على التسمية، التي أخبرنا بها الله بها في كتابه (راجع الجزء
الثاني) نجد هنا أنه عند أول موقف لم يتمكن آدم عليه السلام من التعبير عن فكرة
الاستغفار، فجاء الحل عن طريق تلقي الكلمات من الله. تلقى آدم من ربه كلمات، فما
هو التلقي؟ آدم لم تصدر منه الكلمات، ولكن ما حدث أن الله وهب آدم تلك الكلمات حتى
يستطيع من خلالها بلوغ التوبة. إن كان آدم قد أصبح للتو قادرًا على التعبير عن
المسميات، إلا أن هذه القدرة لم تكن بالقدر الكافي للتعبير عن الفكرة بشكل كامل.
عندما احتاج الأمر إلى تركيب جمل، وإصدار تعبيرات محددة يستطيع من خلالها آدم
الوصول إلى التوبة، تلقى آدم هذا التعبير مباشرة من ربه، وكأنه تدريب عملي على
تكوين وتركيب جملة معبرة مفهومة.
لا
توجد آية واحدة في كتاب الله تدلنا على أن حوارًا جرى بين آدم وزوجه أو أحد بنيه أو زوجه. ما وصلنا
من خلال كتاب الله هو رد آدم من خلال الكلمات التي تلقاها من ربه، عندما قال الله
سبحانه وتعالى لهما، ألم أنهكما عن تلكما الشجرة، لم نرَ أي رد من آدم سوى الكلمات
التي تلقاها من ربه.
﴿فَدَلَّاهُمَا
بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا
يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ
وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ
وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ (سورة الأعراف: آية
22).
العبارة
الوحيدة التي سجلها القرآن عن آدم وزوجه هي استغفارهما وطلبه التوبة، وصيغة هذا
الاستغفار والتوبة كانت من الله مباشرة، كما ذكر ربنا سبحانه وتعالى: ﴿قَالَا
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا
لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (سورة الأعراف: الآية 23).
عندما
أخبر آدم الملائكة بالأسماء لم يكن الإخبار جملًا وعبارت، وإنما هي وصف مسميات.
إنها الحالة البسيطة من النطق والتعبير عن الأشياء: ﴿قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم
بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل
لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا
تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُون﴾.(سورة البقرة: الآية 33).
احتاج
آدم لكي يتوب إلى كلمات بليغة تعبر عن الحقيقة وتصف المشهد، وتقربه إلى ربه، فكانت
الهبة الإلهية؛ أن ألقى الله إليه كلمات، وهذه الكلمات هي التي تاب الله عليه من
خلالها. إنه مشهد قرآني بامتياز يرصد تطور القدرة العقلية للبشر، وقدرتهم على
التعبير عن أفكارهم وتطور هذا التعبير: ﴿فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ
فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ ( سورة البقرة : الآية
37).
تفسير
هذه الآية - وتحديدًا لفظ تلقي - من خلال التفسيرات التقليدية لم يقدم جديدًا ولم
يتعرض - من قريب أو من بعيد - للفرق بين التعبير القرآني "تلقى الكلمات"
أو "تكلم الكلمات" أو حتى تعبير قال الكلمات" من تلقاء نفسه. لا شك
أن التعبير القرآني يقصد حالة معينة، ويعكس خصائص هذه المرحلة.
القصص
القرآني عن الفترات الزمنية في عهد أنبياء الله نوح، وهود، وصالح، وشعيب، لم يظهر
فيها لفظ الكلام إطلاقًا، وكانت جميع الحوارات بين الأنبياء وأقوامهم تستخدم
ألفاظَ قال، ويقولون، ولم يأتِ لفظ تكلم، أو يتكلمون أبدًا في هذه الحقب.
مرحلة نبي الله إبراهيم
ظهر
لفظ الكلام، أو بمعنى أكثر دقة، لفظ كلمات مع نبي الله إبراهيم، وجاء أيضًا
مقرونًا بلفظ ابتلى.
﴿وَإِذِ
ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي
جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي
الظَّالِمِينَ﴾ (سورة البقرة:الآية 124).
هذه
الآية الكريمة تدل على أن العقل البشري تطور تطورًا ملحوظًا، ولكن ما زالت الكلمات
التي دعا به نبي الله إبراهيم إلهامًا من الله. نبي الله إبراهيم وشخصيته الفريدة،
والمشاهد القرآنية العظيمة التي تحكي كيف كان حالة فريدة في التفكير، ومحاولاته
الدؤوبة للوصول للحقيقة، تجعلنا نقول إنه يبدو كان في محاولة للتعبير عن فكرته،
فجاء التدخل المباشر من الله سبحانه لمنحه القدرة على هذه الكلمات.
الابتلاء،
كما في قاموس اللغة، أصله بلوى، وله أصلان: الأول بمعنى إخلاق ( شيء بالٍ أو قديم)
والثاني نوع من الاختبار، ويُحمل عليه الإخبار. سيتضح معنى الابتلاء من خلال الآية
الكريمة التالية:
﴿فَلَمَّا
فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن
شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ
مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلًامِّنْهُمْ
فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا
الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو
اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ
وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (سورة البقرة: الآية 249 ).
ابتلى
الله جنود طالوت بنهر، أي جعله في طريقهم أو حوَّلهم إليه. يختلف معنى الابتلاء
هنا عن التلقي فمثلًا لو قال ربنا إن الله ملقٍ إليكم بنهر فهذا يعني إيجاده بشكل
كامل، ولم يكن موجودًا من ذي قبل، أما قوله مبتليكم بنهر فهذا يعني أن النهر موجود،
ولكن طريقة الوصول إلى النهر هي التي سهَّلها الله. لذلك نقول إن الكلمات في حالة
آدم عليه السلام، لم تكن هناك قدرة من الأساس على الوصول لهذه الكلمات ( نكرر
دائما أن عملية النطق والقول ليست هي المقصودة بعملية الكلام) بينما في حالة نبي
الله إبراهيم يبدو أن القدرة تشكلت، ولكن يبقى الدفع في اتجاه عملية التكلم،
وتسهيل هذه العملية هو المتبقي؛ ولذلك ابتلى الله إبراهيم بكلمات فأتمهنَّ إبراهيم
عليه السلام.
مرحلة نبي الله يوسف
مع قصة
نبي الله يوسف، وهي فترة جاءت بعد نبي الله إبراهيم، سنلاحظ ظهور جذر الكلام، وهو كلم
خلال الحوار الذي دار بين نبي الله يوسف والملك: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي
بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ
لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ﴾ (سورة يوسف : الآية 54).
حسب
ترتيب الفترات من خلال كتاب الله يعتبر الملك المصاحب لفترة نبي الله يوسف هو أول
من جاء معه لفظ الكلام.. هذا الملك الذي أخبر عنه القرآن يبدو أنه أسس نظامًا
سياسيًّا محكمًا، وأنشأ دولة بشكل صحيح، وهذا ما يمكن استنتاجه من التعبيرات
القرآنية التي تناولناها في (الجزء الثالث بالتفصيل) وهي دين الملك، وعزيز مصر،
وخزائن الأرض، والسجن. أضف إلى ذلك حوار الملك مع نبي الله يوسف واهتمامه بتأويل
رؤياه، يخبرنا أن هذا الرجل على قدر من المعرفة والعلم، يجدر بنا أن نتوقف أمامهما
قليلًا.
أصل
لفظ كلم هو الكاف واللام والميم، ولها أصلان، كما في قاموس اللغة، الأصل الأول:
نطق مفهوم، والأصل الثاني: جراح. ومن خلال كتاب الله وجدنا أن كلم تعني العمق
ومحاولة الوصول للحقيقة والتعبير الدقيق عن الأشياء؛ لذلك نرجح احتمالين لفهم
وتحليل كلمة "كلَّمه" التي وردت في عهد نبي الله يوسف وصدرت من
الملك.
الاحتمال
الأول: أنها تعني استوثق من يوسف وفهم ما حدث معه. هذا الاحتمال يقويه لفظ قال
الذي جاء في الآية الكريمة بعد لفظ كلمه: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ
أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا
مِكِينٌ أَمِينٌ﴾ (سورة يوسف : الآية 54).
ورود
لفظ قال بعد لفظ كلم مباشرة يوحي أن كلَّمه لا تعني بالضرورة التحدث معه، بل تعني،
كما ذكرنا، استوثق منه وفهم ماحدث بناء على جذر كلمة "كلم". أميل إلى
هذا الاحتمال بسبب أن الكلام بعد ذلك لم يظهر مباشرة، ولكن ظل وقتًا طويلًا، ولم
يستخدم لفظ الكلام عن طريق البشر إلا بعد فترة طويلة نسبيًّا.
الاحتمال
الثاني: هو أن هذا الملك قد كان استثناء، وربما هذا الاستثناء في الحكمة والمعرفة
والعلم هو ما أهَّله لإنشاء أول نظام حكم على قواعد محددة وواضحة. فقد أنشأ دولة
ووضع دستورًا وقواعد، يبدو أنها ليست على نمط سابق. إنشاء شيء كهذا على غير نمط سابق
أمر شديد التعقيد، ولا يقوم به إلا شخص استثنائي حقًّا (التطور-الجزء
الثالث).
مرحلة نبي الله موسي
مرحلة
نبي الله موسى هي مرحلة ثرية بالمعلومات، وتحتاج لأن نفرد لها كتابًا كاملًا، ولكن
سنحاول الإشارة من خلال هذا الفصل فقط لموضوع الكلام. برغم ظهور لفظ الكلام بكثرة
وغزارة في مرحلة نبي الله موسى، إلا أنه لا توجد إشارة واحدة في كتاب الله على أن
نبي الله موسى تكلم بمعنى الكلام الذي نقصده في هذا البحث، ولكنه كان يقول مثله
مثل السابقين. لقد كان الكلام من الله ويبدو أنه كان تدريبًا مكثفًا للبشرية حتى
تستطيع الكلام. لقد كان الكلام موجهًا من الله إلى موسى، ولم يرد في كتاب الله لفظ
واحد يثبت أن موسى تكلم، برغم أن القرآن بعد هذه الحقبة وصف تعبيرات كثيرة صادرة
من الأنبياء وغير الأنبياء بقدرتهم على الكلام، كما سوف نرى في حالة زكريا ومريم،
والنعمة التي أنعمها الله على عيسى إذا تكلم صبيًّا:
﴿وَرُسُلًاقَدْ
قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًالَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ
وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ (سورة النساء : الآية 164).
﴿وَلَمَّا
جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ
قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ
فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ
موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ
أَوَّلُ الْمُؤْمِنِين﴾ (سورة الأعراف : الآية 143).
يبدو
من الآيات الكريمة أن الله سبحانه وتعالى كلم موسى، وكان دور موسى هو نقل هذا
الكلام لقومه. بالتأكيد أن كلام الله هو الحقيقة المطلقة، وليس هناك أبلغ ولا أوجز
من كلام رب العالمين.
كلام
رب العالمين إلى نبيه موسى لم يكن، كما نعتقد، بشكل مباشر، ولكن كان إشارة ونقلة
نوعية في تاريخ الإنسانية، وسيشرح كاملًا من خلال فصل (كلم الله موسى تكليمًا -
الجزء الثالث). دعونا هنا نلقي الضوء على الفرق بين الكلام، والقول، والنطق، من
خلال الآيات الكريمة التي عرضت قصة نبي الله موسى. سنوضح هذا الفرق من خلال مشهدين
من مشاهد كتاب الله.
المشهد
الأول في سورة الأعراف عندما بلغ موسى قومه كلام رب العالمين: ﴿حَقِيقٌ عَلَىٰ أَن
لَّا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن
رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ (سورة الأعراف : آية 105).
برغم
أن رب العزة قد أخبرنا بأنه كلم موسى تكليماً، إلا أن موسى عندما خاطب قومه قال
حقيق علي أن ألا "أقول" ولم يقل حقيق علي أن ألا أتكلم على الله.
التعبير
القرآني الدقيق الذي استخدم لفظ أقول بدلًا عن أتكلم، يدل على أن الكلام هنا يختلف
عن القول، وأن الكلام صادر من رب العالمين وليس من موسى، إذ إن البشرية في مراحلها
الأولى، ولم تصل بعد لمرحلة التكلم بشكل مستقر.
على
العكس من ذلك نجد أن القرآن الكريم في مرحلة متقدمة من مراحل البشرية قد استخدم
تعبير كلم عند الحديث عن حادثة الإفك، التي حدثت في عهد متقدم هو عهد رسولنا
الكريم: ﴿وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن
نَّتَكَلَّمَ بِهَٰذَا سُبْحَانَكَ هَٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيم﴾ (سورة النور: آية
16).
المشهد
الثاني هو مشهد العجل الذي جسده السامري لبني إسرائيل: ﴿وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى
مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًاجَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ
أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلًااتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ
ظَالِمِينَ﴾ ( سورة الاعراف : آية 148).
هذه
الآية الكريمة تظهر لنا الفرق بين الكلام ومجرد إصدار أصوات، أو حتى إصدار ألفاظ
وعبارات دون وعي. أصل كلمة خوار هو خور، وأصلها صوت، وهو بالطبع يختلف عن الكلام.
قول
ربنا لا يكلمهم بالتحديد، وكان من الممكن أن يقول لا يلقي لهم قولًا على سبيل
المثال، هو إشارة إلى قدرة البشرية - في ذلك الوقت - على التفريق بين الكلام وما
دونه، فكيف لهؤلاء القوم لم يستبينوا الفرق بين الكلام والخوار.
برغم أن التفاسير قالت إن الخوار هو مجرد صوت
الهواء يدخل من جهة ويخرج من الأخرى، إلا أن أصل كلمة الخوار توحي أن هذا العجل
كان يصدر أصواتًا، وقد تكون منطوقًا لبعض الأشياء المفهومة عن طريق تصميم معين،
ولكن لا يمكن أن تكون هذه الأصوات بدرجة الكلام. لقد كان عتابًا من رب العالمين
لهؤلاء القوم، كيف لم يفرقوا بين الخوار والكلام. يبدو أننا على أعتاب مرحلة جديدة
ستستطيع من خلالها البشرية الكلام، وأول بشائر هذه المرحلة هو قدرة الناس على
التفريق بين الكلام وغيره، ثم المحاكاة، ثم تأتي بعد ذلك مرحلة الإبداع، أو إصدار
الكلام. مرحلة نبي الله موسى يبدو أن البشر فيها كان لديهم القدرة على التفريق بين
الكلام والقول، ولعل الكلام الذي أرسله الله إلى موسى كان تدريبًا لهم، ومن ثم
يستطيعون محاكاة هذا الكلام، ثم تأتي المرحلة الأخيرة؛ وهي القدرة الحقيقة على
الكلام.
عندما
يمتزج التواضع العقلي بالهوى النفسي يصبح الإنسان غير قادر على التفريق بين الكلام
والخوار. يحسب أن مجرد رص عبارات وجمل يتساوى مع فضيلة الكلام القائم على التفكير
المنهجي، والتسلسل المنطقي. كل كلمة في الكلام تحمل ثلة من الأفكار، وتحوي سلة من
المعارف والخبرات؛ بينما الخوار ما هو إلا ثرثرة فارغة وخاوية من أي مضمون. عندما
يختلط الكلام بالخوار لدى الناس يصبح التفكير على غير هدى مشاعًا، ويتساوى المفكر
بالمهرج، ويسند الأمر للقوَّالين بدلا عن المتكلمين. هذا الهرج الفكري هو ما يسمح
لمتواضعي الفهم أن يسودوا في المجتمعات البسيطة التي لا تدرك قيمة الكلام وتحسب كل
خوار كلامًا.
قد
تكون مرحلة نبي الله موسى عليه السلام، إيذانًا بظهور الفلاسفة المتكلمين، إذ
استلمت البشرية تدريبًا مكثفًا على الكلام وطريقة التكلم، وسيظهر مردود هذا
التدريب في مرحلة نبي الله زكريا، التي ظهر فيها الكلام بشكل مكثف وغزير من خلال
وصف القرآن الكريم لمشاهد من حياة نبي الله زكريا، ومشاهد من حياة السيدة
مريم.
﴿قَالَ
رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ
أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ
وَالإِبْكَارِ﴾ (سورة آل عمران: آية 41).
آية
نبي الله زكريا هي ألا يكلم الناس، وكذلك السيدة مريم تنذر صومًا على هيئة عدم
الكلام. يبدو أن القدرة على الكلام في هذا العصر كانت شائعة، وأن البشرية وصلت
لمرحلة كبيرة جدًّا من التطور الفكري.
﴿فَكُلِي
وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي
إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا﴾ (سورة
مريم:آية 26)
هذه
المرحلة كانت مرحلة حافلة بالكلام، حتى إن القوم الذين استفسروا عن حال السيدة
مريم قالوا أيضًا كيف نكلم من كان في المهد صبيًّا.
﴿فَأَشَارَتْ
إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا)﴾ (سورة
مريم: آية 29).
يبدو
أن هذه المرحلة هي مرحلة ظهور كثيف للفلاسفة بشدة وانتشارهم؛ إذ انتشار لفظ
الكلام، ومن ثم المتكلمين، من الطبيعي أن يكون كلام عيسى الصغير موضع تعجب، إذ لا
يتحصل من في سنه الصغير على فضيلة الكلام، وإنما هي مجرد أقوال وتعبيرات عن
الأفكار بشكل بسيط.
بعد
هذه الحقب يبدو أن الأمر استقر وانتشرت القدرة على الكلام بشكل طبيعي، وهذا ما
نلاحظه من خلال القصص القرآني في مرحلة نبي الله محمد صلوات ربي عليه، وعلى جميع الأنبياء
الكرام. ﴿مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً
تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا﴾ (سورة الكهف: الآية
5).
التعبير
القرآني "كبرت كلمة تخرج من أفوههم" يدل على أن القدرة على الكلام أصبحت
مستقرة؛ إذ تتحدث الآية عن الذين قالوا اتخذ الله ولدًا، وهذه المرحلة بالتأكيد
بعد مرحلة نبي الله عيسى، وهنا يجب أن نفرق بين من يقول كلامًا لا يدرك معناه، ومن
يعلم جيِّدًا ما يعنيه كلامه. كلمة اتخذ الله ولدًا تصبح كلمة كفر عندما يدرك من
يقول معناها ويقصدها تمامًا، فالمقصود بكلمة الكفر هنا أن المتكلم قصد أن الله
اتخذ ولدًا، أي الفعل البيولوجي وقع على الله تنزه الله عن ذلك وعلا علوًّاكبيراً.
كلمة الكفر هي قصد المعنى مع فهمه تمامًا. لقد كان الغضب الإلهي منصبًا بشكل واضح
على أولئك الذين قالوا اتخذ الله ولدًا، قالوا كلمة الكفر قاصدين ومدركين لما
قالوا.
﴿وَقَالُوا
اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا (88) لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ
السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ
هَدًّا (90) أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَٰنِ
أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا
آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا (93)﴾ (سورة مريم: الآيات 88-93).
يختلف
لفظ ولد - كما سيأتي في هذا الجزء، الفصل السادس - هو فعل بيولوجي عن لفظ ابن أو
أبناء الذي يصف من هم في كفالته أو تحت رعايته. عندما قالت اليهود والنصارى نحن
أبناء الله وأحباؤه لم يكن هذا القول بحجم قول اتخذ الله ولدًا، وإن كان قول نحن
أبناء الله وأحباؤه قولًا منكرًا؛ لأنه يحتكر الهداية ويصدر حقيقة أن الله رب فئة
معينة دون الآخرين، ولكن لا يصل إلى فداحة القول بأن الله اتخذ ولدًا، أو حتى
القول نحن أولاد الله.
﴿وَقَالَتِ
الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ
يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن
يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ (سورة المائدة : آية 18).
من هنا
نستطيع القول أن لفظ "كلمة" نفسها تعني الشيء المقصود الذي يعبر عن
حقيقة الأشياء، فعندما يقول الإنسان كلمة الكفر، وهو مدرك تمامًا لما يقول ويفهم
أبعاد ما يقول، في هذه الحالة ينطبق عليه وصف الكفر بالله. من رحمة الله على عباده
أن القصد والتعمد في الأقوال لايعلم حقيقته إلا الله، ولا يمكن لأحد أن يحكم على
شخص حكمًا حقيقيًّا أنه يقصد كذا أو يعني أمر كذا بشكل قاطع. لهذا الأمر لم يضع
ربنا أي حد أو عقاب دنيوي في كتابه لمن كفر بالله، إذ تحديد الكفر بالله من غيره
أمر يعود لله سبحانه وتعالى، والبشر غير قادرين على ذلك، وليس لديهم القدرة على
تتبع ذلك على وجه الحقيقة. سنعود في الأجزاء التالية لتوصيف وتعريف الألفاظ
القرآنية التي وصفت اليهود والنصارى والكافرين والمؤمنين والمسلمين والأعراف،
لنكتشف أن التوصيفات التى بين أيدينا ما هي إلا توصيفات سطحية للغاية، وأن هذه
الألفاظ تحمل معاني أكثر وأعمق مما نتصور.
لفظ
الكلام ظهر بعد ذلك وأصبح أمرًا اعتياديًّا من خلال سورة التوبة التي وصفت
المنافقين الذين قالوا كلمة الكفر: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ
قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا
لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن
فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ
اللّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ
مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ﴾.(سورة التوبة: آية 74).
في
سورة النور يظهر لفظ الكلام في حادثة الإفك، وهو قصد الأمر عن فهم ومعرفة.
﴿وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ
بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ﴾ (سورة النور: آية 16).
الذين
يعتقدون أن الألفاظ تترادف، ولا يلقون بالًا للفروق هم خطر على مستقبل العلم وعلى
الفكر؛ إذ يستخفون بهذه الفروق الدقيقة، التي يمكن من خلالها اكتشاف بحر من
العلوم. إنه الفرق بين العامة الذين يلقون القول دون اكتراث والعالم الذي يزن كل
كلمة ويحسب حسابها ويرى تأثيرها. كلما ارتقى الإنسان صار قوله كلامًا يعبر عن
حقيقة ما يعتقد، وكلما تدنَّى وتواضع فهمه أصبح قوله أقرب إلى الخوار في كل واد
يهيم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق