Translate

مقدمة الجزء الأول

 

مقدمة الجزء الأول


الحمد لله رب العالمين الذي أنزل القرآن وجعله هدى للناس وتفصيلًا لكل شئ.

أما بعد،

  

لا يمكن اعتبار المعجزات المادية حالات منفردة خاصة بالقوة الإلهية، تمت بعيدًا عن التقدير الذي أشار إليه ربنا في كتابه؛ بل هي تطبيق لقوانين إلهية منتظمة، وبقدر معلوم.  لو أتيح لنا التوصل لهذه القوانين لاستطعنا إنتاج حالات شبيهة بالمعجزات أو ما نسميه نحن معجزات وسماها ربنا آيات. الإعتقاد أن الأشياء الخارقة تمت هكذا، بدون قوانين؛ هو اعتقاد في العشوائية، لا اعتقاد في التقدير والحساب. كل الأشياء الخارقة للعادة؛ تمت في الحقيقة  بقوانين وأقدار محسوبة، ولكن خارج دائرة معارف الجيل الذي عايش هذه الآية أو الأجيال المتعاقبة التي لم تمتلك المرعفة الكافية لفهم هذه الآية وتتدبرها.

الله خلق كل شيء بقدر، وقدَّر كل شيء تقديرًا وذلك ينعكس على جميع التداخلات التي نسميها إعجازية، ويقول ربنا عنها أنها آيات، و قد تمت بقوانين وأقدار وليست طارئة.  المعجزات والخوارق في كتاب الله هي هدى للناس، ودليل على أنهم قادرون على الإتيان بمثلها؛ بالأسباب، وفهم التقديرات.

تتميز القوانين المُسيِّرة للطبيعة والكون، بالشمولية، والثبات والصرامة؛ إذ لا يمكن لها أن تتبدل أو تتحول، ولكنَّ ما يتبدل ويتحول هو تصورنا الذهني لهذه القوانين والسنن الكونية. لا يمكن لبشر، مهما أوتي من قوة و علم، أن يخرق هذه القوانين الكونية أو يحيد عنها، و أقصى ما يمكن أن يفعله الإنسان هو أن يستفيد من هذه القوانين ويُسخِّرها لخدمة أغراضه.

لا ريب أن القرآن الكريم قد قصَّ علينا بالحق قصصًا وأخبارًا، ونقل إلينا أحاديث - هي بلا شك الأحسن، والأبلغ، والأصدق - عن خرق هذه القوانين والسنن، تأييدًا للأنبياء والمرسلين.

لست هنا بصدد الحديث عن قدرة الله وعلمه سبحانه وتعالى، فهذا شيءٌ ثابتٌ، وإثبات المُثْبت مضيعةٌ للوقت والجهد، وإنما الحديث في هذا الجزء عن مدى إتاحة هذا العلم، وهذه القدرة للإنسان. علم الله محيط، وقدرته مطلقة؛ أما علم الإنسان وقدرته، فهي محكومة ومحدودة بحدود الأسباب والقوانين. فقدرتنا - إن جاز لنا التعبير - تعمل تحت مظلة القدرة الإلهية، وليست منفردة بذاتها.  الاعتقاد في ذلك هو عين الإيمان اليقيني بالله، أما ظن القدرة والعلم بعيدًا عن الله؛ فهو إجرام بحق النفس أولًا، وبحق محيطها ثانياً، وهو نوع من قطع العلاقات الأساسية التى يتكوَّن منها الكون، وفك عروة من عرى الانسجام الكوني البديع؛ مما يؤدي بالنهاية إلى انهيار النظام الكوني وفنائه. الكون بكل مكوناته - وفي القلب منه الإنسان - يسلك كوحدة واحدة، وأي تصرف غير مسئول يضر هذه العلاقات؛ وسيحول هذا الكون إلى جزر منفردة لن تصمد طويلًا.

المتابع الجيد لكمِّ المعارف والعلوم التى تُنشر كل يوم، والتوسع غير المحدود في التجريب، والفحص، والاستنتاج؛ يستطيع بكل سهولة أن يلاحظ أن الجدار بين ما هو خارق للعادة "مُعْجز" وبين ما هو في المتناول ومتاح، يريد أن ينقض. العلم الذي يكتشف القوانين، والأسباب، والأقدار، وينظمها؛ هو مِعْولُ نقضِ هذا الجدار الذي يزداد هشاشة يوماً بعد يوم

يقول الله سبحانه وتعالى ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ (سورة القمر الآية : 49). القدر هو: مجموعة التقديرات، أو بمعنى أكثر وضوحاً: مجموعة القوانين، والتعليمات، والحسابات المنضبطة التي تحكم كل كبيرة وصغيرة

تعددت وكثرت الكتب التي تحدثت عن الإعجاز العلمي في كتاب الله، ولاقت تأييدًا كبيرًا من البعض؛ على الجانب الآخر، كثيرون هم من يعارضون هذه النوعية من الكتابات.  الحقيقة أن لكلٍّ منهما - سواء المؤيد، أو المعارض - وجهة نظره المعتبرة في هذا الأمر؛ فالمؤيد يبحث عن دليل علمي، ليثبت لنفسه أنه على الحق المبين، حتى وإن كان مؤمناً مستقر الإيمان.  إنها النفس البشرية التى تسعى جاهدة للوصول إلى أعلى درجات سلم اليقين؛ فالأنبياء - وهم صفوة البشر، ومع وجود الوحي - بحثوا عن ذلك اليقين، وما سؤال نبي الله إبراهيم عليه السلام ربَّه ليريه كيف يحيي الموتى؛ إلا بحثاً عن الاستقرار والطمأنينة التي تملأ القلب.

أما المعارض فيرى أن العلم والنظريات متغيرة، ولا يجوز ربطها بالقرآن، فلو ثبت خطأ تلك النظريات والفرضيات العلمية؛ لتَزعْزَعَ إيمان الناس ويقينهم بالقرآن.

هؤلاء المعارضون وكثيرٌ من الناس، يتعاملون مع الاجتهاد والفكر على أنه أمرٌ واقعٌ، فإما قبوله كاملًا، أو رفضه كاملًا؛ ولو حاول هؤلاء التعامل مع جميع أنواع الاجتهاد والفكر منذ وفاة الرسول الكريم، صلوات ربي عليه، وحتى يومنا هذا على أنه أمرٌ قابلٌ للنقاش، واجتهادٌ يخص صاحبه، يخطئ ويصيب، ليبقى النص القرآني الكريم ثابتاً وشاهدًا وهادياً؛ ما حدث كل هذا الارتباك.

الانتخاب الطبيعي للأفكار لا يمكن أن يؤتي ثماره إلا في جو خالص، من حرية الفكر والإبداع؛ فالأفكار الصالحة تقوى وتُؤَيَد وتزدهر، بعكس الأفكار غير الصالحة، أو غير المنطقية التي تحمل بذرة فنائها داخلها، والتي لن تستطيع الصمود طويلًا في بيئة مثالية تنعم بحرية التفكير. الأفكار الحية لا تحتاج إلى إرهاب فكري كي تُرهب معتنقيها حتى لا يتخلوا عنها، وإنما تدعوهم للبحث والمنطق، واستدعاء الدليل والرضوخ للبرهان.  كذلك هو كتاب الله يدفع الناس دفعاً ويحثهم على التدبر، واستعمال العقل، وعدم الحجر على الآراء مهما كانت، ليصبح مبدأ هاتوا برهانكم؛ هو المبدأ المهيمِّن والمسيطر عوضاً عن الإيمان الأعمى.

هذا النسيج الكوني البديع - وفي القلب منه الإنسان - متوافقٌ توافقاً تاماً، ومنسجمٌ مع بعضه، وهذا الانسجام تحكمه القوانين والأسباب؛ فليس هناك شيء عبثي، أو عشوائي، أو محض صدف، وإنما كل شيء بمقدار وحساب.

عندما يقول الله سبحانه وتعالى في سورة النبأ ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا﴾ ( سورة النبأ الآية: 29)، يجب أن ننتبه لاختيار اللفظ ومدلوله! لفظ أحصى لفظٌ شاملٌ، يختلف عن لفظ عدَّ الذي يعني: عدَّ وترتيبَ الأشياء؛ بينما لفظ أحصيناه يخلق صورة من أجمل الصور، تُعبِّر عن حقيقة هذا النظم البديع؛ إذ عملية الإحصاء تشمل خصائص، وصفات، وقوانين، وعلاقات، هذا الشيء الواقع في نطاق الإحصاء، ثم تكتمل الصورة بإضافة أحصيناه للكتاب؛ فكلُ شيء له كتابٌ خاصٌ به، يحوي خصائصه، وصفاته، وقوانينه، وتعليماته، وجميع علاقاته، مع أشباهه داخل أمته، ومع الأمم الأخرى من جميع الكائنات في محيطه، بل وعلاقته مع كل مكونات الكون.

تتضح الصورة أكثر فأكثر عندما نتدبر الآيات الكريمة في سورة البقرة  ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (33)﴾. ( سورة البقرة الآيات: 31- 33).

ما الصعوبة في أن تخبر الملائكة ربها بأسماء الأشياء التي أمرها بها؟ فهذا قلم! وهذا كرسي! وهذه شجرة ! وهكذا..

 الأمر ليس بهذه السهولة والبساطة! قد يقع في نفوسنا أن الأمر سهلٌ وبسيط، لأننا لا نقيم وزناً للتسمية، فأسهل ما يمكن أن نفعله هو أن نسمي شيئاً ما، فقط تحتاج لثوانٍ معدودة، نُحملق لسقف الغرفة، أو ننظر لصفحة السماء، ثم ننطلق في إطلاق عدة مسميات تكون معبرة باعتقادنا عن المسمى، والحقيقة على غير ذلك بالمرة.

 إنَّ من يسمي الأشياء لا بد أن يكون مدركاً تمام الإدارك لخواص، وصفات، ووظيفة، وعلاقات المُسمى؛ فالاسم يشبه إلى حد كبير الـ ( د ن ا) - DNA الشريط الوراثي في الخلية الحية الذي يحمل كل المعلومات عن الكائن الحي؛ وكذلك الاسم الصحيح لا بد أن يحمل معلومات المُسمى، ولا يمكن بحال من الأحوال تسمية الشيء تسمية صحيحة؛ إلا عن طريق خالقه، وعالم كل صفاته، والمحيط به. لذلك عندما طلب الله سبحانه وتعالى من الملائكة أن تخبره بأسماء هؤلاء، قالوا بكل صراحة: لا علم لنا بذلك، فهم يعلمون مدى قدرتهم وإمكاناتهم، وعندما سُئلوا عن أسماء هؤلاء قالوا لا علم لنا، أي ليس لديهم القدرة على التسمية.

هذه الآية الكريمة في سورة البقرة دفعتنا دفعًا للقول بأن اللغة العربية ليست لغة بشرية، ولكنها لغة إلهية؛ فكل حرف فيها يحمل مدلولًا صوتيًّا معيناً؛ وهي كلغة قد طرأت عليها زيادة ونقص كغيرها من لغات العالم. وعندما جاء القرآن الكريم جاء ناطقاً بالحق، ضابطاً لهذه اللغة، وحافظاً لها. كل المسميات في القرآن الكريم مسمياتٌ حقيقيةٌ تصف المسمى بكل دقة؛ أما الألفاظ والكلمات التى لم ترد في كتاب الله، فيُحتمل فيها احتمالين: إما أن تكون مسميات حقيقة فعلًا، أو مسميات بشرية أنتجتها البشرية لحاجتها إليها؛ ولذلك يجب التفريق دائماً بين اللفظ القرآني، وبين أي لفظ آخر. (سوف نفصل نظرية اللغة وأصلها في الجزء الثاني من الكتاب، بما لا يدع مجالًا للشك في كونها لغة إلهية وسوف نلقي نظرة على المنهج المستخدم في سلسلة كتب تلك الأسباب).

الكلمات في القرآن الكريم بحارٌ تموج بالمعارف، فكل مسمى يحمل كنوزًا، ما خفي منها أضعاف أضعاف ما نعلمه. اللغة الوحيدة التي تجد فيها التناسق والتناغم بين حروفها، وكأن الكلمات قد صيغت على شكل معادلات رياضية موزونة ومضبوطة؛ هي هذه اللغة العظيمة، وأخص منها الألفاظ القرآنية.

البحث في دلالات، ومعاني، وجذور الكلمات، لا يمكن بحال من الأحوال أن يقوم به علماء لغة فقط، ولكنه يحتاج إلى علماء أفذاذ في الرياضيات والإحصاء، وعلماء في الفيزياء، والفلك، والفلسفة، وعلم النفس؛ ليستخرجوا لنا كنوز هذه اللغة الإلهية الرائعة، ولكي يتمكنوا من إيجاد علاقات الحروف بعضها ببعض، وعلاقتها بتغير المعنى، ووصف حالة كل كلمة، ومسمى كل اسم.

يعتقد علماء الطبيعة والقائمون على دراسة المادة، أنه كلما نحونا نحو المكونات الأولية، حصلنا على معلومات أكثر غزارة، وفهماً أكثر عمقاً، واقتربنا كثيرًا من الحقائق. كذلك اللغة العربية كلما اعتمدنا الجذور، حصلنا على معلومات أكثر دقة. ولا شك أن معلومات موثوقة عن الدلالات الصوتية للحروف، إذا قُدِّر لها أن تصاغ بشكل صحيح، مع مراعاة أساسيات الطبيعة، مثل الحركة، والطاقة، والأبعاد الكونية، والبعد الزمني؛ قد تورثنا فهمًا أكثر وضوحاً، ودقة للكلمات، ودلالاتها. كتابات كثيرة تناولت مدلول أصوات الحروف، فمثلًا صوت الراء يدل على التكرار، وصوت الصاد يدل على الصلابة، وصوت الطاء يدل على الطراوة وهكذا، ولكن من وجهة نظري أن معظم ما ورد في هذا الشأن عليه علامات استفهام كثيرة؛ قد يكون ذلك بسبب إهماله لعوامل وعلاقات أخرى، كان يجب أن تدرس جيدًا، وتُنظم في مصفوفة محكمة تتيح فهم دلالات الأصوات فهمًا ناضجًا.

هذا الكتاب بفضل الله، يحاول قراءة بعض آيات القرآن من منظور علمي، ومدى إمكانية تحقيقها والاستفادة من المعلومات الغزيرة التي تكتنزها هذه الآيات الكريمة.  الكتب التي تناولت مسألة الإعجاز العلمي بشكلها التقليدي حاولت التوفيق بين الاكتشاف العلمية الحديثة، وبين بعض الآيات في كتاب الله بعد استقرار الكشف العلمي. هذه السلسلة تسبق بخطوة؛ إذ تقوم على محاولة فهم المعجزة ( الآية ) أو الدلالة العملية الواردة ودراستها مع مناقشة كيفية الاستفادة منها.

يطرح الكتاب أسئلة، ويقدم احتمالات أكثر بكثير من أنه يقدم حقائق ثابتة.  إنني أعدُّ قراءة هذا الكتاب، كمن يمارس التمارين الرياضية، سوف يحرك مراكز الفكر لديك، ويطرح الأسئلة، ويحاول مجتهدًا الإجابة قدر المستطاع؛ سوف تشعر وأنت تقرأ الكتاب كأنك في حاجة للتوقف، والتفكير أمام كثير من الأمور، قد تختلف أو تتفق معي، وفي كلتا الحالتين يجب ألا تعتبر ما أقوله أمرًا واقعاً، ولكن هي مجرد أطروحات ومحاولات لطرح الأسئلة. إن نصف العلم هو القدرة على طرح الأسئلة، وكلما كانت الأسئلة أعمق وأشمل، حصلت على إجابات منطقية ومقبولة؛ إنها محاولة لبعث روح جديدة تنطلق من كتاب الله، تتعثر أحياناً وتنهض أحياناً، حتى يأذن الله لها وينفخ فيها فتنفتح أمامنا طاقات المعرفة وأبواب العلم.

لا شك أن استخدام ألفاظ معينة في كتاب الله لوصف مشهد ما، وعدم استخدام ألفاظ أخرى، لهو إشارة عظيمة يجب أن تُبحث جيدًا، ولا نمر عليها مرور الغافلين، فكما تستوقفني الآيات الكريمة التي تحمل دلالات على المستقبل، كذلك تلفت انتباهي آيات الخوارق و"المعجزات"إذ كيف حدثت ولماذا ذكرت.  خوارق العادات "المعجزات" (الآيات) التي اختص الله بها أنبياءه ورسله،  لا شك أنها  كانت لإثبات رسالاتهم التى أرسلهم بها الله أمام أقوامهم، في وقت كان التجسيد هو المسيطر على عقول الناس، فما حاجتنا نحن لمثل هذه المعرفة الآن، والتي يمكن أن تشكك الكثيرين في حقيقة تلك المعجزات والخوارق؟

الإجابة تكاد تكون بسيطة، ولكن الإنسان خُلق من عجل، فالعقل البشري البدائي في الماضي كان يحتاج دليلًا مادياً لإثبات وجود الله، وفهم المعاني المجردة، مثل الطاعة، والمعصية، والعبادة، أما الآن وقد ارتقى العقل البشرى نوعاً ما، وقلَّتْ معه الحاجة إلى التجسيد، فلا بد أن يكون ذُكْر هذه القصص له فائدة وإشارة لذوي الأفهام.  لا شك عندى أن هذه الخوارق مفاتيح لعلوم ومعارف جديدة كليًّا، ويمكن من خلالها فهم الحضارة الإنسانية وتطورها، كما  سنرى في الجزء الثالث من الكتاب. دراسة القصص بشكل علمي متزن، وفحص التعبيرات القرآنية بشكل منهجي، يشمل الناحية اللغوية، و الناحية العلمية؛ سيفتح الباب على مصراعيه أمام البشرية في اكتشاف هذا الكون المترامي الأطراف، سواء على مستوى حدود المكان (الجغرافيا)، أو مستوى حدود الزمان (الماضي، والحاضر، والتنبؤ بالمستقبل). لقد أثبتنا ذلك من خلال أجزاء الكتاب المتتالية، وكيف من خلال فهم اللفظ القرآني بطريقة جديدة استخرجنا كمًّا من المعلومات، لم تُطرق من قبل بالدليل والبرهان.

للأسف الشديد وقعنا بين شقي الرّحى، فهناك من يُشكك في وقوع مثل هذه الخوارق "المعجزات" على وجه الحقيقة، ويرى أنها وقعت على سبيل المجاز، من ناحية أخرى هناك من يعتقد أن مناقشة مثل هذه الأمور تَعدٍ على الاختصاص الإلهي وتجرؤ لا تحمد عواقبه، ونوع من أنواع الهرطقة.

 ما بين الإفراط الذي حرَّم مجرد التفكير في كيفية حدوث مثل هذه "المعجزات"، أو محاولة مناقشتها والتفريط الذي عدَّها من الأساطير والخيال، نحاول أن نتخذ بين  ذلك سبيلًا. نتائج الإفراط على هذه الأمة تمثلت في تراجع المنهج العلمي والعقلي، وتقهقر المنطق في مقابل الشعوذة والخرافات، والذي بدوره انعكس على الدين في حد ذاته. إنه لشيء عجاب أن نرى في هذا العصر الرقمي والشرائح الذكية أنماطاً فكرية منحطة، تستدعي موروث القبيلة الثقافي من عصور الانحطاط والتخلف، في الاحتفاء بلفظ الجلالة أو اسم الرسول الكريم على ثمرة بِطيخ، أو على جذع شجرة، أو على نصف حبة طماطم، أو حتى على قشرة بيضة.

 إن هؤلاء العامة الذين يبحثون في السحاب، أو على صفحات الماء، عن لفظ الجلالة ما هم إلا نتاجٌ حقيقي لفراغ ثقافي، مُلئ بالدجل والشعوذة، التى سيطرت على العقول في عصور غابرة، وما زلنا نعيش تأثيرها حتى يومنا هذا بحجة الإيمان والتسليم. متحمسون جدًّا لنشر الخرافات دون أي محاولة حقيقة للتحقق أو التوقف قليلًا وطرح الأسئلة، إنه شيء سهلٌ للغاية، وغير مكلف، ومريح للنفس؛ إذ يعتقد الإنسان أنه يؤدي خدمة جليلة لدينه ومعتقده، يستحق عليها حسنات مثل الجبال إذا ساعد في نشر مثل هذه الخزعبلات، التى تفتقر لأي سند ديني أو عقلي، بل وفي كثير من الأحيان تعارض نصوص كتاب الله.

هل نحن في حاجة لأن نكرر للمرة ربما المليون، أن كتاب الله الكريم الذي جاء به الرسول الكريم؛ إنما هو حجة على العالمين، يخاطب العقل، ويعلي الحق، ويمحو الله به الباطل. يوقظ في أتباعه منهج البحث والاجتهاد، ويستنهض التحري والتحقيق، ولا مكان فيه للبلهاء.

بقدر ما جلب الإفراط نكسات على هذه الأمة، فقد فعل التفريط فعله أيضاً؛ إذ أصبح كلام الله رمزًا طقوسيًّا، وتمائم للتبرك، وظهر من ينادي بتجنيب كتاب الله الحياة، وقصره على أرفف المكتبات؛ لأنه لم يعد صالحاً لزمان العلم، والتقنية الحديثة.

فعل التفريط نفس الأثر؛ إذ تراجع المنهج البحثي، والأمر الإلهي، بتدبر كتاب الله ليصبح كتاباً تاريخيًّا عند الكثيرين.

المعجزة التى أيد الله بها هذه الأمة؛ هي القرآن الكريم الذي أنزله على رسوله، وعندما طلب المشركون من رسول الله أن تكون له "معجزات" مادية كان رده كما أمره ربه ﴿سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً ﴾.

﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً﴾ (سورة الإسراء الآية :93)

ليس هناك ما يمنع أن نبحث خلف كل حادثة، وخلف كل "معجزة" (آية)، متسلحين باليقين أن لكل شيء قدرًا، وعلى الله نستعين، فإن أظهر الله الأمر على أيدينا حققنا مراد الله وأرضيناه، وإن لم نوفق يكفينا شرف الاجتهاد الذي ربما يفتح طريقاً لمن يأتي بعدنا، أن يُصوِّب ما أخطأنا فيه، ويتلافى ما أسرفنا، ويذكر ما نُسِّينا.

المنهج الذي تبنيتُه في هذا الكتاب هو تحليل الألفاظ  القرآنية محل الدراسة، ومحاولة معرفة وفهم دلالة الكلمات من خلال كتاب الله نفسه، مستعيناً بجذر الكلمة من  قواميس اللغة، مثل قاموس اللغة لابن فارس، ولسان العرب لابن منظور، والعين للفراهيدي، إضافة إلى دلالة الكلمة في السياق القرآني، ثم الإسترشاد بالمعلومات العلمية لفهم اللفظ القرآني. أضف إلى كل ما سبق الإستعانة  بأقوال المفسرين القدامى منهم والمحدثين، حول الآية محل الدراسة، ثم ضمنت خواطري، وفهمي، واجتهادي للآية الكريمة من خلال ربط هذه الأمور جميعها بعضها ببعض، ثم انتقلت للدلائل والرؤية العلمية التي يمكن أن تشير إليها الآية القرآنية، مدعِّماً وجهة نظري بالمراجع العلمية والأوراق البحثية. اعتمدت هذه السلسلة بشكل أساسي على النظرية التوقيفية في فهم اللفظ القرآني وهي نظرية تختلف تمامًا عن النظرية المستخدمة حاليًا من قبل أهل اللغة وهي نظرية الاصطلاح (أنظر الجزء الثاني- الفصل الأول والذي جاء فيه تفصيل هذه النظريات والمنهج المستخدم).

يشمل هذا الكتاب عشرة فصول، إما خواطر حول آيات قرآنية لها دلالات مستقبلية، أو محاولة لفهم إحدى "المعجزات" الآيات التى ذُكرت في كتاب الله، ومدى إمكانية حدوثها، أو رؤية جديدة لبعض آيات الذكر الحكيم.

الفصل الأول "وظن أهلها أنهم قادرون عليها"

يتناول هذا الفصل معنى القدرة، ومعنى الظن، وارتباط الآية الكريمة بنهاية العالم. وفهم لفظ القدرة بمعناه الشامل، والذي  يشير إلى أن الإنسان في طريقه إلى التحكم بالظواهر الطبيعية حتى يتحقق ظنه بالقدرة. قد تكون هذه الآية الكريمة إشارة على أن الإنسان قادر على التحكم بالظواهر الطبيعية، مثل الأعاصير، والزلازل، والبراكين!

الفصل الثاني: "المفاعل جهنم"

يتطرق هذا الفصل لاستخدام كلمة الحجارة في التعبير عن وقود النار، والفرق بينها وبين الألفاظ القرآنية الأخرى، والوصف العلمي الدقيق الذي ينطبق على لفظ حجر، وهل هناك أي إشارات يمكننا من خلالها استنتاج أن الحجارة تصلح للعمل كوقو. يتضمن الفصل بعض الأفكار المستقبلية، التي يمكن أن تكون نقاط بحثية ومشاريع واعدة.

الفصل الثالث:"كان في المهد صبيا"

تطرق هذا الفصل لما يسمي معجزة نبي الله عيسى، وكلامه في المهد، وهل تكلم وهو طفل رضيع أم صبى، واعتمد الفصل بشكل كامل على مدلول الكلمات في كتاب الله، والفرق بين مدلول كلمة صبي، ومدلول كلمة طفل، وتفسير كلمة المهد في كتاب الله مع مقارنة ومتابعة لأقوال المفسرين.

الفصل الرابع:"خلق الإنسان من علق"

 يشمل هذا الفصل شرحًا مفصلًا لمراحل تكون الجنين، بفهم مختلف تماماً عما استقر في الوجدان، وعما ورد في كل مقالات الإعجاز العلمي لهذه الأطوار، ثم بيان ما هو العلق الذي سميت سورة كاملة باسمه. يحتوي الفصل على بيان كلمات، مثل علقة، ومضغة، والجذور اللغوية المتوافقة تماماً مع الحقائق العلمية، من خلال فهم جديد كليًّا، ومغاير لما يتداول حول ما يسمي بالإعجاز العلمي لمراحل خلق الإنسان، سواء القديم منها أو الحديث.

الفصل الخامس: جسدًا له خوار

سوف نحاول من خلال هذا الفصل تتبع لفظ الكلام والتفريق بينه وبين القول وعلاقة ذلك بتطور قدرات الإنسان.

الفصل السادس: "فطرة الله التي فطر الناس عليها"

يشمل هذا الفصل شرحًا لعلاقة السلوك والإحساس النفسي بالطبيعة والكون، وهل السلوك النفسي مرتبط بالكون، وهل من الممكن أن يسبب السلوك النفسي كوارث طبيعية إذا انحرف وشذ عن السلوك الطبيعي. يشمل هذا الفصل العديد من التفصيلات، وتعقيبًا على قصص هلاك القرى والتأثير الفيزيائي للسلوك الإنساني الجمعي، وكذلك مجموعة من القصص المختصة بتأثير العقل فوق المادة، وأبحاثًا عن تأثير النيات في المادة.

الفصل السابع:"وفار التنور"

يحتوي هذا الفصل على تصحيح كلمة تنُّور التي وردت في قصة الطوفان العظيم، الذي حدث في عهد نبي الله نوح، ومحاولة فهمها من خلال السياق القرآني، والتى جاءت مغايرة تماماً للفهم التقليدي، وعلاقة التنور بالبركان، والتغيرات المناخية العظيمة.

الفصل الثامن: ويلٌ للمصلين

سورة عظيمة تحذر الناس من أن يكونوا عقبة في طريق الآخرين، وتنذرهم بالويل إذا هم فعلوا ذلك وتعمدوه. لا يعرف الناس من هذه السورة العظيمة سوى ويل للمصلين؛ قاصدين من ذلك مقيمي الصلاة الشعائرية؛ بينما السورة العظيمة تتحدث عن  شيء آخر تماماً يمس حياتنا جميعًا، ويعكر صفوها. لو علم الذين يصعِّبون كل سهل على الناس، أنهم هم المعنيون بالويل لفكروا ألف مرة قبل التعنت، وتعطيل أمور الناس.

الفصل التاسع: انشزوا

الأعداد التي ذكرت في القرآن تبدو أنها تشير إلى الحد الأدنى والحد الأعلى لما يجب أن يكون عليه الفريق الذي يبحث أمر المستقبل. آيات كريمة تشير إلى العدد الأمثل لفريق البحث الذي يدير نقاشاً وحوارًا حول أمر من أمور المستقبل وكيف أن العدد ثلاثة هو الحد الأدنى للفريق، والعدد خمسة هو الحد الأعلى للفريق.

الفصل العاشر: وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا

صاحب العلم الحقيقي يرى ما لايراه الآخرون، ويجب عليه أن يقوم بما يجب عليه فعله، بغض النظر عن نظرة الناس لما يفعل، وما يترتب على فعله، فهؤلاء الناس لا يعلمون ما يعلم ولا ينظرون إلى ما ينظر. سوف يدرك الناس بعد فترة أن ما فعله العبد الصالح كان صوابًا، وكان لا بد من فعله. هكذا دائمًا أصحاب العلم يسبقون بخطوة أو قل بخطوات، يدركون ما لا يدركه العامة، ويستنتجون ما لا يستطيع العامة الوصول إليه، فلا يمنعهم لوم المجتمع على فعل ما يلزم، ولزوم ما يُعلم.

ختاماً.. أرجو من الله أن أكون قد وفقت في سبيل إخراج هذا العمل بهذه الصورة، وأحطت به الإحاطة المقصودة، وحققت من خلاله الأهداف المنشودة، فإن كنت قد وفقت فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وإن كانت الأخرى فحسبي أني لم أدخر جهدًا، والكمال لله وحده.

الفصل العاشر: وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا

صاحب العلم الحقيقي يرى ما لايراه الآخرون، ويجب عليه أن يقوم بما يجب عليه فعله، بغض النظر عن نظرة الناس لما يفعل، وما يترتب على فعله، فهؤلاء الناس لا يعلمون ما يعلم ولا ينظرون إلى ما ينظر. سوف يدرك الناس بعد فترة أن ما فعله العبد الصالح كان صوابًا، وكان لا بد من فعله. هكذا دائمًا أصحاب العلم يسبقون بخطوة أو قل بخطوات، يدركون ما لا يدركه العامة، ويستنتجون ما لا يستطيع العامة الوصول إليه، فلا يمنعهم لوم المجتمع على فعل ما يلزم، ولزوم ما يعلم.

ختاماً.. أرجو من الله أن أكون قد وفقت في سبيل إخراج هذا العمل بهذه الصورة، وأحطت به الإحاطة المقصودة، وحققت من خلاله الأهداف المنشودة، فإن كنت قد وفقت فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وإن كانت الأخرى فحسبي أني لم أدخر جهدًا، والكمال لله وحده.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الصفحة الرئيسية

ثلاثية تلك الأسباب - الجزء الأول

أكثر الصفحات مشاهدة